كتاب " نزار مروة في عوامله الثقافية وفي دروب حياته " ، تأليف كريم مروة ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
نزار مروة في عوالمه الثقافية وفي دروب حياته
يا ليتنـــي قـــد كنــت ديــواني أختـــال مـــن صـــدر إلى ثان
وكانت لميعة تقرأ هي أيضاً في تلك الجلسات بعضاً من قصائدها القصيرة الأنيقة، وتوهم الشاعر المحب أن تلك القصائد كتبت من وحيه وأنها موجهة إليه تحديداً.
أما نازك الملائكة فكانت نموذجاً آخر من الشعراء ونموذجاً آخر من النساء. كانت سوداوية بطبيعتها، بسيطة وهادئة، لكنها كانت عميقة الإحساس بالحياة. حملت شعرها الجميل الغني بالصور الإنسانية، المستند إلى ثقافة عصرية واسعة، كل مأساة الحياة، حياة البشر بعامة وليس حياتها هي بالتحديد. كانت مهمومة بإيصال تلك الصور والأفكار والمشاعر إلى كل الناس بالواسطة، واسطة شعرها، وليس من خلال العلاقة المباشرة مع الناس. فلم تكن مثل تلك العلاقة تغريها أو تستهويها. غير أن اللقاءات الشعرية مع نازك الملائكة، سواء في دار محمد شرارة أم في دار والدها عبد الصاحب الملائكة وبحضور والدتها الشاعرة أم نزار وشقيقها نزار، فكانت من النوع الهادئ الوادع الذي كان يتراوح الاستمتاع فيه بين الاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية التي كانت نازك تعشقها وتحب مشاركة الآخرين لها في تلك المتعة، وبين المحاولات التي كان يجتهد والدها من خلال النكات الظريفة والخبريات المركبة واللعب بمفردات اللغة التي كان متضلّعاً بمعرفتها في اختراق المناخ الرومانسي وإضفاء جو من المرح والسمر على تلك الجلسات. كان ذلك هو الانطباع الذي ولدته عندي عن نازك الملائكة لقاءاتنا معها في تلك الفترة. وقد انقطعت علاقتنا، نزار و«أبو نزار» وأنا، معها بعد مغادرتنا العراق.
إلا أن محمد شرارة كان يضفي على كل تلك الجلسات المتنوعة المتعددة مع الأصدقاء من أهل الثقافة والسياسة الكثير من روحه الطيبة ومن حدة نقده، ومن بعض الآراء الاعتراضية التي كان يختلط فيها ما في جعبته الثقافية من تنوع مع ما كان يعج به المجتمع العراقي من صخب في الفكر، ومن تناقض وصراع في السياسة. كان محمد شرارة مثل صديقه وزميله في الدراسة حسين مروة قد درس علوم الدين في النجف وتخرج من جامعتها، ثم خلع العمامة وزي رجل الدين، وبدأ حياته الجديدة مدرساً وكاتباً وشاعراً وسياسياً. تعرف إلى الماركسية من خلال ما صدر من ترجمات باللغة العربية. ثم لما تعلم الإنجليزية بجهده الذاتي تابع تعميق معارفه بها باللغتين العربية والانجليزية. وسرعان ما أصبح مناضلاً شيوعياً مرموقاً. فتعرض بسبب انتمائه ونشاطه وجرأته للاعتقال والسجن والنفي والتشريد. وسلكت طريقه بالكامل ابنته حياة التي عانت كل مرارات الاضطهاد إلى أن توفيت في حادث مأسوي في أواسط عام 1997 في بغداد مع ابنتها مهى اختناقاً بالغاز. كان محمد شرارة إذن مختلفاً عن حسين مروة في أمور كثيرة، بما في ذلك في الفكر وفي نوع العلاقة وشكلها مع الآخرين وفي أسلوب الكتابة وفي أمور عديدة أخرى. إذ كان عالم حسين مروة أكثر رحابة، ربما لأنه كان أقل التزاماً في الفكر وفي السياسة من محمد شرارة، رغم ما كان يربطه بالشيوعيين منذ وقت مبكر، لا سيما بشخص حسين الشبيبي أحد قادة الحزب الشيوعي العراقي، من علاقات صداقة واحترام متبادل. لكن كلاً من حسين مروة ومحمد شرارة بالنسبة إلى نزار وإليَّ كان يكمل واحدهما الآخر.
تعددت مراكز اللقاءات التي كنا ننهل فيها المعرفة ونكون صداقاتنا ونلتصق بأحداث الحياة الجارية في العراق وفي العالم. وكان محل ناجي جواد الساعاتي وداره ودار عزيز أبي التمن الواقعة في شارع أبو نواس المطل على نهر دجلة وبعض مقاهي العاصمة، لا سيما مقهى حسن عجمي في الحيدر خانة ومقهى الزهاوي في شارع المتنبي، كانت جميعها أماكن لعقد العديد من تلك اللقاءات التي كانت تحفل بالنقاشات من كل نوع ويختلط فيها الثقافي بالسياسي وبالاجتماعي.
على أن الأهم من كل تلك الأماكن التي كانت تجري فيها تلك اللقاءات الجميلة مع الشعراء والأدباء والمثقفين والسياسيين، هو دار حسين مروة، دارنا في الكاظمية، التي كانت تقع غير بعيد عن «الحضرة»، مقام الإمام موسى الكاظم. ففي تلك الدار بالذات جرى الأساسي من اللقاءات والنقاشات، وجرى تعرفنا إلى الوجوه الثقافية والسياسية المتعددة من أصدقاء حسين مروة، من عراقيين ولبنانيين ومن بلدان عربية أخرى. وفي تلك الدار أيضاً تعرفنا من خلال المجلات العربية، لا سيما مجلة «الكاتب المصري» إلى الحياة الثقافية في العالم العربي، فضلاً عن مجلتي «الهلال» و«الكاتب» المصريتين، والمجلات اللبنانية «المكشوف» و«الأديب» و«العرفان»، ثم «الطريق» فيما بعد التي أصبحت المصدر الأساسي لثقافتي السياسية والنظرية في مراحل متعددة من حياتي في أيام الشباب على وجه الخصوص، وصارت بالنسبة إلى نزار المكان الذي مارس فيه عمله في إدارة تحريرها قبل توقفها في عام 1991.
وقد ساعدتنا تلك المجلات في التعرف، نزار وأنا، إلى أدباء ومفكرين كبار من أمثال طه حسين وسلامة موسى ولويس عوض وعمر فاخوري ورئيف خوري ومارون عبود وجرجي زيدان وتوفيق الحكيم وابراهيم المازني وسواهم الذين أغنوا ثقافتنا.
تلك كانت لحظات من التاريخ تميزت فيها علاقتي مع نزار بشيء من الثبات أسس لكل المراحل اللاحقة التي أعقبت عودتنا إلى لبنان، بعد قرار إبعاد «أبي نزار» من العراق في صيف العام 1949. وكان ذلك العام من الأعوام الصاخبة بالمرارة والخيبة في العراق في كل المجالات وفي كل الاتجاهات. إنه العام الذي اتسم بالقمع بأبشع أشكاله، وبالاعتقالات التي طاولت كل الوطنيين والديمقراطيين- ولم تستثن الجواهري ومحمد شرارة والسياب- وبالإعدامات التي كان ضحيتها قادة الحزب الشيوعي العراقي، إذ تم إعدام الأمين العام للحزب «فهد» وثلاثة آخرين من قادة الحزب هم حسين الشبيبي وزكي بسيم ويهودا صديق. وهو العام الذي أعقب عاماً كان صاخباً بالثورة والتمرد، العام الذي ولدته انتفاضة شعبية أطاحت معاهدة «بورتسماوث» ورئيس الوزراء آنذاك صالح جبر، الذي كان قد وقعها مع الإنكليز. وكان لنا، نزار وأنا، شرف المشاركة في أول تظاهرة انطلقت ضد تلك المعاهدة من باب المعظم، على مداخل دار الكتب الوطنية، في صباح يوم 28 كانون الثاني من عام 1948. إذ فاجأتنا تلك التظاهرة ونحن في طريقنا من الكاظمية عبر باب المعظم إلى الكرادة الشرقية في واحدة من زياراتنا المألوفة إلى دار محمد شرارة. اشتركنا فيها ثم خرجنا منها بعد احتدام المعركة والبدء بإطلاق الرصاص، وبعد أن تفرق المتظاهرون وتشتتوا. وفي الوقت الذي كانت تجري فيه تلك التظاهرة في باب المعظم كانت تظاهرات أخرى تملأ شوارع العاصمة وأزقتها وساحاتها والمعابر التي تصل الكرخ بالرصافة على ضفتي نهر دجلة. وسرعان ما أصبح العراق كله مسرحاً لانتفاضة شعبية كبيرة سالت فيها دماء كثيرة، وسقط فيها شهداء كثيرون كان من بينهم جعفر شقيق الجواهري الذي رثاه الشاعر بواحدة من أروع قصائده ألقاها الجواهري في رثاء شقيقه في اجتماع حاشد داخل جامع الحيدر خانه وفي الشارع المحيط به. وكنت مع حسين مروة ومحمد شرارة بين الحضور في الشرفة التي أطل منها الجواهري ليلقي قصيدته. وكان ذلك الحدث بدلالاته من أجمل ما تحتفظ به ذاكرتي العراقية.