أنت هنا

قراءة كتاب الأب والابن والروح التائهة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الأب والابن والروح التائهة

الأب والابن والروح التائهة

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: علاء حليحل
الصفحة رقم: 1
1 | الأب
 
إقتربت الأخت ماريا من الأب يوحنا وهمستْ في أذنه شيئًا. لم ينتبه أحد في الكنيسة، لأنّ الجميعَ كان مُغلقًا عينيه، شابكًا يديه على بطنه، مُلقيًا رأسَه على أعلى صدره، يُصلي في سرِّه مع الأب يوحنا. حين يصلي الأب يوحنا فإنه يتملك كلَّ من يسمعُه. يُسيطرُ على كلِّ الحواس الممكنة عند كلِّ من هُم من أتباعه، ومن هم من غير أتباعه. كان الأب يوحنا يقرأ بصوته الرخيمِ الخلابِ من الكتابِ المُقدسِ الثمينِ الذي اشتراه له الشيخ علي في عيد ميلاده الخامس والثلاثين، قبل سنتين:
 
"... إن الله نورٌ وليس فيه ظلمة البتة. إن قلنا إن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق. ولكن إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطهّرنا من كل خطية."
 
لم تستطع الأخت ماريا أن تتقنَ العربية تمامًا، على الرّغم من مِضيِّ عشرين عامًا على تواجدِها في القرية. شارفتِ اليومَ على الثانية والأربعين ولمّا تفقِد من مسحةِ جمالِها الطاغيةِ الكامنةِ من تحت نقابها الأبيضِ الطويلِ المُسترسلِ على جسدِها الملفوف برشاقةٍ، بثوبٍ أسودَ صوفيٍ خشنٍ طويلٍ؛ ولمّا تعرف رجلاً بعد. هكذا قالت للأب يوحنا في واحدٍ من أحاديثهما الشيّقةِ والعميقةِ في الليالي الطويلة المليئة بالوحدةِ والمطرِ وجسدِ المصلوبِ الواقفِ استلقاءً، فوق السرير الخشبيِّ الظلفِ، في القنطش (1) الموحش الذي يمضي فيه الأب يوحنا ليالي وحدته الباردة. لم تعرف رجلاً في حياتها إلا المصلوب على الخشبة، الذي "تحبُّه أكثرَ ممّا يحبُّها هو بنفسه".
 
لم يغفل الأب يوحنا عن الإشكاليةِ الكبيرةِ في مثلِ هذه الجملة، خاصةً أنها صدرت عن أختٍ مؤمنةٍ ومخلصةٍ، إلا أنه كان يستطيعُ أن يلمسَ في تلك اللحظة مدى تأثر الأخت ماريا وعِظَم أيمانها بما قالت، فأجابها بحنيةٍ، تاركًا الموعظة إلى أجلٍ قادمٍ:
 
"هو يحبّنا كما نحبّه نحن. كوني متأكدة يا ماريا".
 
هزّت الأخت ماريا رأسَها بخشوع ونظرت عبر الشّباك الزجاجي المُطلِّ على الليلةِ الماطرةِ السوداءِ وقالت في إستدراكٍ مُثير للشفقة:
 
"سامحني أيها الرب.."
 
لم يغفل الأب يوحنا عمّا في هذه الجملة من هلعٍ وحزنٍ، فهو الأدرى من الجميع بذلك، ولكنه صمتَ تاركًا للمطر الجليلي الغزير، الهدوءَ اللازمَ ليعزف "الراكويام" المُحزن اللائق بموت الخريف المعلن على الملأ...

الصفحات