كتاب " أرتور رامبو " ، تأليف سامي مهدي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أرتور رامبو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رامبو الحقيقة
قيل عن شاعرنا أبي الطيب المتنبي أنه : مالئ الدنيا وشاغل الناس ، ويصح أن يقال مثل هذا عن الشاعر الفرنسي جان نيكولا آرتور رامبو في الشعر الحديث . ولكن المتنبي هو غير رامبو ، ورامبو هو غير المتنبي ، وكل منهما في سبيل . وليس هدفنا هنا أن نقارن بين الشاعرين ، أو بين شعريتيهما ، أو أسطورتيهما ، إذ لا نرى بينهما وجهاً للمقارنة سوى انشغال الناس بهما ، بل هدفنا الحديث عن : رامبو الحقيقة ورامبو الأسطورة . فنحن نرى أن رامبو الحقيقة هو غير رامبو الأسطورة . فرامبو الحقيقة هو سيرة الشاعر الفعلية ونصوصه الشعرية ورسائله التي وصلت إلينا . أما رامبو الأسطورة فهو ما أحاط بسيرته وتفوهاته النظرية من مبالغات وتهويلات وأوهام وإسقاطات وأكاذيب رفعته ورفعت شعره إلى مستوى أسطوري .
إن رامبو الحقيقة هو ذلك الطفل الذي ولد في ( 20 ) تشرين الأول من عام (1854 ) في بلدة ( شارلفيل ) الواقعة في ( الأردين ) شمالي فرنسا ، وعلى مسافة كيلومترات من الحدود البلجيكية .
ورامبو الحقيقة هو الطفل الذي أنجبه أب عسكري كان قد ولد عام ( 1814 ) هو الكابتن فريدريك ديديه رامبو ، وأم ولدت عام ( 1825 ) هي ماري كاترين فيتالي كويف التي تزوجت منه عام ( 1852 ) وأنجبت ولديهما فريدريك ، فآرتور ، ثم بنتيهما فيتالي وإيزابيل وبنتاً أخرى توفيت في وقت مبكر . ولكن الأب كان يقضي أيامه بعيداً عن بيته وأسرته ، بسبب واجباته العسكرية ، ولم يكن على وفاق مع زوجته ، فانتهت حياتهما الزوجية بالانفصال عام ( 1860 ) واضطرت الأم أن تتولى بنفسها إعالة أطفالها وتربيتهم .
ورامبو الحقيقة هو أيضاً الصبي الذي درس بين عامي ( 1861 و 1870 ) في معهدي ( روسّا ) و ( شارلفيل ) ، الأول يعادل مدرسة ابتدائية من المدارس التي نعرفها اليوم ، في حين يعادل الثاني مدرسة ثانوية ، غير أنه امتنع بإصرار عن السعي للحصول على شهادة البكالوريا على الرغم من حدة ذكائه وتفوقه في دراسته .
ورامبو الحقيقة هو ذلك الفتى الذي تمرد على التقاليد الأسرية ، والأنظمة المدرسية ، والمواضعات الاجتماعية ، ونفر من حياة الدعة والاستقرار ، ثم انغمس في حياة التشرد ، وشذ في عاداته الخاصة وسلوكه الأخلاقي والاجتماعي .
ورامبو الحقيقة هو ذلك الشاعر الذي بدأ نظم الشعر باللغة اللاتينية كمتطلب من متطلبات دراسته ، وفاز في مسابقات الشعر اللاتيني التي كانت تنظم لطلبة معهده . أما أول قصيدة له بالفرنسية فقد نظمها في مطلع عام ( 1870 ) وكان يومئذ في عامه السابع عشر ، ثم توقف عن كتابة الشعر عام ( 1873 ) في رأي بعض المؤرخين والباحثين ، وعام ( 1874 ) أو ( 1875 ) أو ( 1878 ) أو ( 1879 ) في رأي غيرهم ، وأنتج من الشعر المتميز خلال هذه الأعوام القليلة ما لا ينتجه الشعراء إلا بضعف هذه المدة أو أكثر .
ورامبو الحقيقة هو الفتى الذي وجد في معلمه جورج إيزامبار صديقاً له ، يشجعه ويناقشه حول الشعر والشعراء ، ويغذيه بالأفكار السياسية المعادية للنظام الإمبراطوري في فرنسا ، ويضع بين يديه مكتبته وما فيها من كتب أدبية وفكرية ، ويقدم له النصيحة ، وينقذه من المآزق التي يورط فيها نفسه ، ويوفر له الملاذ أيام التشرد والإفلاس ، ويستقبل منه أفكاره ورسائله حول الشعر ، ويستمع إلى قصائده ويناقشه فيها ويفتح له أفقاً جديداً .
ورامبو هذا هو الشاعر الناشئ الذي بحث لنفسه عن موطيء قدم في عالم الصحافة ، فكتب إلى بعض الصحف المحلية ، وحاول العمل في إحداها فلم يوفق ، وبحث عن موقع بين الشعراء في باريس ، وراسل بعضهم ( تيودور بانفيل ، بول فرلين ) ليدخل عن طريقهم إلى عالم الأدب ، ويجد لنفسه مكاناً بين الشعراء في باريس ، حتى إذا تلقى أول رد فعل إيجابي من فرلين شدّ رحاله إليه من دون تردد أو إبطاء .
ورامبو هذا هو نفسه المراهق الذي عاش في حقبة من عمره حياة بوهيمية حافلة بالتشرد والعربدة وتعاطي المسكرات والمخدرات ، وأقام مع فرلين علاقة جنسية شاذة أدت بهما إلى التشرد معاً في بلجيكا وبريطانيا ، وانتهت بخصومات فقد فرلين في إحداها السيطرة على نفسه فأطلق عليه النار وأصابه ، فحكم عليه بالسجن مدة سنتين ، وعرفت هذه الحادثة لدى المؤرخين باسم مأساة بروكسل . وقد أتاحت له علاقته بفرلين أن يلتقي بأهم شعراء عصره ، مثل هوغو وبانفيل ، والعديد من شعراء باريس وفنانيها ، ولكنه كان يتعالى عليهم ، ويسخر منهم ، بل يهينهم أحياناً ، من دون أي مسوغ .
ورامبو الحقيقة هو ، أخيراً ، ذلك الرجل الذي قرر تطليق الشعر وراح يضرب في الآفاق ( في بريطانيا ، وألمانيا ، وإيطاليا ، وسويسرا ، والنمسا ، وجاوة ، وقبرص ، ومصر ، واليمن ، والحبشة ) متسكعاً باحثاً عن عمل يقتات منه وطامعاً في تكوين ثروة كبيرة ، حتى انتهى به المطاف إلى عدن وهرار ، تاجراً بضاعته البن والجلود والسلاح والعبيد ، وظل كذلك حتى مرض مرضاً خطيراً ، وعاد إلى بلاده ليموت في مدينة مرسيليا في (10) تشرين الثاني من عام 1891 ، وعمره لم يزد عن سبعة وثلاثين عاماً .