كتاب " أرتور رامبو " ، تأليف سامي مهدي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أرتور رامبو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رامبو الزنديق
ولكي تكتمل ملامح النموذج البوهيمي كان على المؤرخين أن يبرهنوا على أن رامبو كان زنديقاً متمرداً منذ نعومة أظفاره ، فتشبثوا بإشارتين وردتا في اثنتين من قصائده هما قصيدتا : ( شعراء السابعة ) و( حيوات ) . ففي الأولى يقول رامبو إنه ( لم يكن يحب الله ) في السابعة من عمره . وفي الثانية يذكر أنه حبس ، وهو في الثانية عشرة من عمره ، في حجرة السلّم . وبناء على ذلك يزعم المؤرخون أنه حبس لأن أمه ضبطته وهو يقرأ في كتاب يتنافى والتعاليم الكاثوليكية ، فما كان منها إلا أن تنتزع الكتاب من يده بغضب ، وتعاقبه بهذا العقاب طوال النهار . أما ما هو هذا الكتاب ، ومن أين جاء به رامبو وهو في هذه السن فلا أحد يقول عن ذلك شيئاً .
وهكذا حكموا عليه بالزندقة منذ طفولته ، وحمّلوا أمه فيتالي كويف مسؤولية زندقته ، فراحوا يرسمون لها صورة امرأة متدينة ، بل متزمتة في تديّنها ، حاولت أن تغرس في نفوس أطفالها الأربعة التعاليم المسيحية الكاثوليكية ، وحب التقشف والطاعة ، وجعلت من المنزل شبه محراب . وعندئذ لم ينسوا أن يصفوا لنا الشموع الشاحبة ، وصليب المسيح المعلق في صالة البيت ، ووجه فيتالي المعذب القاسي ، وأثر كل ذلك على روح الطفل رامبو وجموحه وجنوحه نحو الكفر والتجديف . ولابد، لهذه المناسبة ، من أن يتذكر أحدهم ( دولاهيه ) كيف كانت فيتالي تقتاد أطفالها الأربعة إلى الكنيسة صباح كل أحد . ولكي يضفي على هذه الذكرى طابعاً مسرحياً يتبرع بتقديم مشهد فريد : الأم فيتالي وهي تسير بوقار صوب الكنيسة ، تتقدمها ابنتاها ( فيتالي وإيزابيل ) وكل منهما تمسك بيد الأخرى ، ووراء البنتين يسير الولدان ( فريدريك وآرتور ) وفي يد كل منهما مظلة زرقاء ، وعلى رأسه قبعة مستديرة . وحيث أن آرتور هو الشخصية الكافرة في هذا الجمع المؤمن ، وحيث أنه بطلنا ونموذجنا الفريد ، فلابد من إحكام هذا المشهد المسرحي بلمحة معبرة عن شذوذه وتجديفه ، فهو الوحيد الذي كان يتلفت يمنة ويسرة ، ويتحدى بلفتاته ونظراته عيون المارة المبتسمين !
بهاتين الحكايتين ، حكاية الحبس في حجرة السلم وحكاية صباح الأحد ، مع ما يكتنفهما من وصف إنشائي مؤثر ، حاول المؤرخون إقناعنا بأن فيتالي كويف امرأة متزمتة في تدينها ، وغير متسامحة ، بل قاسية في عقوبتها ، وأن ابنها الصغير رامبو كان ميالاً للتمرد والزندقة منذ نعومة أظفاره . وهذه ليست الحقيقة ، أو ليست كل الحقيقة . فثمة حقائق أخرى ، وحكايات أخرى ، تدل على عكس ذلك ، وهم يروونها من غير أن يشعروا بالتناقض . فهم أنفسهم يذكرون أن رامبو كان متديّناً في صباه حتى أنه أراد أن يصبح كاهناً ! وهم أنفسهم يروون أنه غضب ذات يوم غضباً شديداً حين رأى أولاداً أكبر منه يعبثون بالماء المقدس خارج الدير ويرش به بعضهم بعضاً ، فما كان منه إلا أن يهجم عليهم ، وما كان منهم إلا أن يطلقوا عليه لقب ( المتعبد القذر) . فأين هي الحقيقة إذن ؟
الحقيقة هي أن رامبو تكوّن تكويناً دينياً منذ نعومة أظفاره ، وظل هذا التكوين مهيمناً عليه برغم ما أبداه من تمرد على الدين حين اجتاحته أزمة المراهقة . وكل من يقرأ شعره يجد مشاعره الدينية العميقة مبثوثة في ثناياه . وحيثما ورد عليه ذكر المسيح ، أو مريم ، أو أحد القديسين ، فاضت هذه المشاعر في نفسه ، وأفصحت عن نفسها في جملة عابرة ، أو كلمة في الأقل . فتجديفه كان طارئاً عليه ، كان ضرباً من العناد والتكبر ، ولم يكن وليد قناعة داخلية راسخة . ورغم كل ما قاله وما فعله ، كان شعوره بالإثم يثقل ضميره ، حتى إذا انفجرت الأزمة بينه وبين صاحبه فرلين ، وكان ما كان في مأساة بروكسل ، اتخذ من كتابه ( فصل في الجحيم ) كرسياً للاعتراف وإعلاناً للتوبة . فقد استعاد في هذا الكتاب إيمانه المسيحي ، وثمة العديد من العبارات الدالة على ذلك في ثنايا هذا الكتاب :
قال في ( دم فاسد ) : ( الله صانع قوتي ، وإنني لأحمده . ) وقال راجياً ( لو وهبني الله الهدأة السماوية ، الأثيرية ، الصلاة ، كقديس من القديسين ، أقوياء ، نساك كهوف ، فنانون كما لم يعد أحد يريد ) .
وقال في ختام ( ليل الجحيم ) : ( إلهي رحماك ، خبّئني ، إنني لا أتماسك ، مخبأ أو غير مخبأ . إن النار لتعلو مع رجيمها ) .
وقال في ( هذيانات 2 ) : ( السعادة ! كان ضرسها ، الرقيق لدى الموت ، ينبهني عند صياح الديك في الصباح أن ( المسيح آت ) في أكثر المدن حلكة ) .
وقال في ختام ( المستحيل ) : ( لحظة اليقظة هذه هي التي وهبتني النقاء ! بالروح نذهب إلى الله . سوء حظ محزن ) .
وقال في ختام ( ومضة ) : ( أيتها الروح الفقيرة العزيزة لن نخسر الأبدية ) .
ومما يؤكد عودته إلى إيمانه المسيحي ما أجراه على بعض مسودات ( فصل في الجحيم ) من تعديلات ، ومن ذلك مسودة ( الإهتداء الكاذب ) . فقد أعاد كتابتها وغير عنوانها بعنوان آخر هو ( ليل الجحيم ) وحذف منها مع ما حذف عبارة ( شعور كاذب، صلاة كاذبة ) التي كانت في خاتمة القطعة المدونة في المسودة .
هذا لا يعني أنه أصبح متديّناً كالمتديّنين ، بل استعاد إيمانه المسيحي فحسب .
ولكن ماذا عن فيتالي كويف نفسها ؟ أكانت متديّنة متزمتة كما يقولون ؟
إن معظم الأمهات في الأرياف والبلدات الصغيرة متديّنات ، بل شديدات التديّن، وهذا لا يجعل فيتالي كويف شاذة بينهن ، إلى الدرجة التي تدفع بأبنائها ، كلهم أو بعضهم ، إلى التمرد على الدين وتعاليمه . ولكن ما دامت فيتالي هذه هي أم الشاعر المجدّف آرتور رامبو ، فتديّنها إذن هو السبب في تجديفه . ترى لو كان رامبو شخصية ورعة متديّنة ، أما كان هؤلاء سيقولون : إن ورعه وتديّنه كانا بتأثير من تديّن أمه وورعها ؟
ومع ذلك ، فإن فيتالي ، إن كانت متديّنة حقاً ، فإنها ليست متزمتة في تديّنها، والدليل على ذلك أنها أدخلت ابنها في مدرسة روسّا ، وهي مدرسة معروفة بنزعتها العلمانية واتجاهاتها واتجاهات أساتذتها الحرة ، باعتراف المؤرخين أنفسهم . ولو كانت فيتالي متزمتة ، كما يزعمون ، لما قبلت علاقة ابنها الشاذة بفرلين بـ ( تسامح مدهش ) كما يقول إيف بونفوا . فقد سكتت على هذه العلاقة ، ولم تشجبها بكلمة استنكار واحدة .
إذن فحقيقة الأمر أن رامبو لم يكن ميّالاً إلى الزندقة والكفر في طفولته وصباه ، بل كان عكس ذلك ، بغض النظر عما قاله بعد أن شبَّ وتمرد . ولم تكن أمه متزمتة في تدينها ، بل كانت متسامحة ، ولكن المؤرخين جمعوا من الحكايات والمرويات كل شيء يمكنهم من رسم ذلك النموذج التجريدي المتخيل للبوهيمي الزنديق ، وسنكتشف أن الكفر قد طرأ عليه بعد التقائه بمعلمه وصديقه جورج إيزامبار ، وأنه لازمه خلال مرحلة مؤقتة من حياته ، هي مرحلة تمرده التي دامت أربع سنوات ، وانتهت بما قدمه من اعترافات في كتابه ( فصل في الجحيم ) .