أنت هنا

قراءة كتاب أرتور رامبو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أرتور رامبو

أرتور رامبو

كتاب " أرتور رامبو " ، تأليف سامي مهدي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

رامبو وإيزامبار

نخلص مما تقدم أن رامبو لم يولد بوهيمياً ، ولا زنديقاً ، ولا متمرداً ، كما أراد المؤرخون إيهامنا ، بل ولد مثلما يولد غيره من أطفال الناس . وكان في طفولته هادئاً ، متزناً ، مطيعاً ، مهذباً ، خجولاً ، ميالاً إلى التدين ، مواظباً على الدرس ، متفوقاً فيه ، وكان الجميع ، أمه ، ومعلموه ، وأصدقاؤه ، يتوقعون له مستقبلاً باهراً في الحياة .

وتثبت الوقائع أن رامبو ، بصفاته هذه ، لم يتغير إلا في عامه الدراسي قبل الأخير ، عام 1870 ، وهو العام الذي التقى فيه بمعلمه جورج إيزامبار . ومع أن كل المؤرخين والمفسرين أشاروا إلى أهمية هذا اللقاء الذي تحقق بين التلميذ والمعلم ، وأثره الكبير على حياة التلميذ وثقافته ووعيه ، فإنهم لم ينتبهوا إلى الشرخ العميق الذي أحدثه في أخلاقه وسلوكه أو أنهم تجاهلوه من دون مسوّغ . فقد شغلوا جميعاً بالبحث عن مثالب أم هذا التلميذ وتبشيع صورتها وتحميلها مسؤولية ما حدث لابنها من تحول في الأخلاق والسلوك ، وأفرطوا في الثناء على المعلم وما فتحه للتلميذ من آفاق ثقافية جديدة .

غير أن الوقائع تثبت أن تأثير إيزامبار في رامبو كان سلبياً بقدر ما كان إيجابياً. فقد بدأت أخلاق الفتى وتصرفاته وعاداته تتغير منذ أن التقى بمعلمه وصار يزوره في منزله ، ويصطحبه في جولاته ، ويحاوره ، ويقرأ كتبه المسموحة والممنوعة . وهذا ما فاجأ الأم وأدهشها ، وجعلها تنظر بريبة إلى علاقة ابنها به ، وتحتج على ما يعيره من كتب ، فقد كانت هي أول من انتبه إلى تأثير هذه العلاقة على أخلاق ابنها وسلوكه ، فوجدتها علاقة غير طبيعية تهدد مستقبله .

وواضح من رسالة الأم الأولى إلى إيزامبار أن ابنها كان يوهمها بأن معلمه هذا يعطيه دروساً إضافية ، وكان هذا هو العذر الذي يقدمه لها في تسويغ لقاءاته به خارج المدرسة ، وزيارته في منزله ، وإلا لما كانت تقبل هذه اللقاءات وتسمح لابنها بزيارته :

( سيدي العزيز ، إنني عظيمة الامتنان لكل ما تفعله لآرتور ، فأنت تنصحه وتعطيه دروساً إضافية خارج ساعات المدرسة ، وهذه كلها رعاية ليس ثمة ما يجعلنا نتوقعها . ولكن ثمة شيء واحد لا أستطيع قبوله ، ذلك هو قراءة الكتاب الذي أعرته إياه أخيراً ، كتاب ( البؤساء ، لفيكتور هوغو ) . فأنت يجب أن تدرك أكثر مني أن اختيار الكتب التي توضع بين يدي الأطفال يجب أن يولى عناية كبيرة . ولذا أجدني مجبرة على الاعتقاد بأن آرتور أخذ الكتاب من غير علمك . وسيكون خطراً مؤكداً أن تسمح له بأن يستمر في قراءات مثل هذه .

لي الشرف ، سيدي ، أن أعرض لك هذا ، مع احترامي .. فيتالي رامبو ) .

ويبدو أن الأم لم تتلق جواباً إيجابياً يطمئنها ، ولذا لم تكتف بهذه الرسالة ، بل شكت إيزامبار لدى إدارة المعهد . ومع أن هذه الإدارة استدعته في ضوء الشكوى ، استمر هذا في لقاءاته مع ابنها خارج ساعات المدرسة ، وظل يعيره الكتب ويسمح له بقراءة ما يريد قراءته منها في منزله ، ويحاول تبديد شكوك الأم وغيرها بالأكاذيب . فقد ادعى أن الكتاب الذي اعترضت عليه الأم هو ( أحدب نوتردام ) وليس ( البؤساء ) ، وإن الأحاديث التي يتبادلها مع ابنها تقتصر على الشعر والشعراء ، وهذا خلاف الحقيقة . فهو قد وضع كتب مكتبته كلها بين يديه ، مسموحة كانت أم ممنوعة . وكانت أحاديثه معه تتناول كل شيء وخاصة الموضوعات السياسية الملتهبة وأخبار الجمهوريين وأنشطتهم في باريس . بل هو كان يطلعه على أعداد جريدة ( الصباح ) الممنوعة. وكان هذا كله يؤثر في رامبو تأثيراً قوياً ، ويغير تفكيره وسلوكه . وكانت أمه تلحظ هذا التغير وتستنكره ، وتعزوه ، وهي على حق ، إلى علاقته بإيزمبار ، ولكنها لم تكن تملك القدرة على وضع حد لهذه العلاقة وإنقاذ ابنها المراهق من عواقبها .

ويبدو أن إيزامبار نفسه ، وهو شاب صغير بعيد عن أهله وأصدقائه ، كانت به حاجة إلى صحبة كصحبة رامبو ، ويبدو أيضاً أنه قد راقه أن يجد في رامبو طينة طرية قابلة للتشكل على يديه ، وصفحة بيضاء قابلة لاستقبال أفكاره ، فراح يمارس تأثيره عليه من غير أن يعبأ بظنون أمه وشكوكها واعتراضاتها ، ولا بما يطرأ عليه من تحولات في العادات والسلوك . ويبدو لنا أن دوافع إيزامبار كانت سياسية أكثر مما هي أدبية ، أو هي سياسية بقدر ما هي أدبية . ومهما تكن حقيقة هذه الدوافع ، فإن التغير الذي طرأ على تفكير رامبو وسلوكه وأخلاقه كانت نتيجة مباشرة من نتائج علاقته به .

ولسنا نريد هنا أن نلوم المعلم ونبرئ الأم ، بل نريد الوصول إلى الحقيقة . والحقيقة هي أن رامبو لم يولد ( مختلفاً ) كما يدعي غود شوت ، ولا ولد ( غجرياً ) كما يرى دولاهيه ، ولا ( نموذجاً لمجنون لا يفهمه أحد ) كما يقول كاريه ، بل ولد طفلاً كسائر الأطفال ، فرعته أمه وهذّبته ، وأنفقت على تعليمه بسخاء ، حتى جاء إيزامبار ونشأت علاقته به ، فحدث ما حدث لسلوكه ، سواء نجم هذا عن حواراته معه ، أو عن قراءة الكتب التي وضعها بين يديه .

لقد فوجئت الأم ودهشت حينما فرّ ابنها من البيت في المرة الأولى ، بعد سفر إيزامبار إلى بلدته ( دويه ) خلال العطلة الصيفية . فهي لم تعتد من ابنها إلا ما يخالف هذا السلوك . ولذلك كتبت إلى معلمه تتساءل بطريقة لا تخلو من لوم مبطن (إلى أين كان يريد الذهاب ؟ أيمكن أن تفهم حماقة هذا الصبي ، وهو الهادئ الرزين ؟ وكيف جاءت إلى رأسه هذه الفكرة الجنونية ؟ ) .

الوقائع تقول إن هذه (الفكرة الجنونية) خطرت لهذا (الصبي الهادئ الرزين) بعد ما شعر به من فراغ كبير بعد سفر إيزامبار . كان هذا الفراغ موجوداً في حياة الصبي قبل لقائه بمعلمه ، ولكنه لم يكن يشعر به أو ينتبه إليه ، حتى إذا حصل اللقاء بينهما وامتلأ الفراغ ، صار وجود المعلم ضرورة من ضرورات حياته .

كان إيزامبار أكثر من معلم في حياة تلميذه المراهق خلال هذه الأيام . كان صديقاً ، بل أكثر من صديق . كان أخاً ، وأباً ، استحوذ على عواطف المراهق المشبوبة وملأ الفراغ الذي لم يملأه سواه ، لا أبوه الغائب ، ولا أخوه فريدريك ، ولا صديقه دولاهيه ، ولا أي شخص آخر . ويبدو أن عواطف المراهق تجاه صديقه الجديد لم تخل من المبالغة والاضطراب . وربما كانت لا تخلو من بعض الانحراف ، وهو انحراف يحدث لبعض المراهقين حين لا يجدون من الجنس الآخر من يستهلك عواطفهم أو ينفس عنها .

( ماذا سأفعل على الأرض حين يذهب السيد إيزامبار ؟ ثمة شيء واحد أكيد هو أنني لا أستطيع تحمل هذه الحياة سنة كاملة أخرى . سأهرب . أنا أعرف كيف أكتب . سأصبح صحفياً في باريس ! ) .

( أتظن أن الأمر بهذه السهولة ؟ كيف ستستطيع أن تشق طريقك وحدك ؟ )

( حسن . إذن سأسقط على حافة الطريق ، وأموت على كومة أحجار ، ولكنني سأهرب. )

هذا جانب من حوار دار بين رامبو ودوفريير ، صديق إيزامبار ، على مسمع من هذا الأخير . وعلى الرغم من أن إيزامبار نهاه عن الهروب ، ولكنه كان سيهرب ، شاء المعلم ذلك أم لم يشأ . فهو لا يستطيع تحمل الحياة في شارلفيل عاماً آخر بعد رحيله، كما قال .

ترى ما الذي فعله المعلم لتلميذه حتى لم يعد التلميذ يجد بديلاً لغياب المعلم من حياته سوى الهروب ؟

لقد لبى إيزامبار حاجة رامبو إلى ( أب ) يحنو عليه ، و( أخ ) يحبه ، و(مرشد) يوجهه ويساعده على اكتشاف ذاته وتلمس طريقه . وقد علمه إيزامبار قيمة الشعر ، وقيمة الشاعر ، وقيمة الحرية ، وقيمة أن يكون الشاعر حراً ، فغير مفاهيمه كلها ، وفتح له آفاق قراءات لم يكن يألفها ، وغذاه بمفاهيم لم يكن يعرفها ، وبأحلام وعناصر ثقة هي فوق قدرة مراهق مثله على استيعابها وتمثلها برصانة واتزان . وربما حدثه عن أدباء باريس ومقاهيهم وحاناتهم ونمط حياتهم وما فيها من تعطل ومجون وعربدة . بل هو أتاح له أن يقرأ بودلير ، ويتعرف على سيرته ، وربما وفر له من أعماله كتاب ( الفراديس الاصطناعية ) وكل هذا ، وغيره مما لا نعرفه ، أخل بتوازنه ، وأفقده اتزانه ، وأعطاه تصوراً خاصاً عن الشعر والشعراء ، ونمط حياتهم وسلوكهم ، فانفلت من كل عقال .

كتب له مرة في ذيل أحد موضوعاته في درس البلاغة ( هؤلاء الشعراء كما ترى ليسوا من هذه الأرض . دعهم يعيشون حياتهم الغريبة . دعهم يعانون البرد والجوع ، يركضون ويحبون ويغنون . إنهم أثرياء هؤلاء الأطفال المجانين ، لأن نفوسهم ملأى بالأوزان والقوافي ، ملأى بشعر يضحك ويذرف الدموع ، ويثير فينا الفرح والبكاء ) . وقد كان تكوين الفتى الذهني والثقافي أوهى من أن يستقبل هذه الكلمات بموضوعية ووعي ، وكانت نفسه المضطربة أكثر هشاشة من أن تتلقاها برصانة واتزان. والله وحده يعلم بما كان يدور بين التلميذ ومعلمه من حوارات أخرى حول هذا الموضوع وغيره من الموضوعات ، ولكن النتيجة هي ما عرفناه من تحول عميق حدث في تفكير التلميذ وسلوكه .

وهكذا يتضح لنا أن مئات الصفحات التي سودها المؤرخون والمفسرون حول أم رامبو ودورها في إرثه البوهيمي واندفاعه في حياة التمرد والانحراف لم يكن ضرورياً قط ، أو كان ضرورياً لهم فقط ، لبناء ( النموذج الرامبوي ) وتأثيث ( أسطورته ) .

الصفحات