أنت هنا

قراءة كتاب أرتور رامبو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أرتور رامبو

أرتور رامبو

كتاب " أرتور رامبو " ، تأليف سامي مهدي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

رامبو الأسطورة

تلك هي الحقائق الأساسية في سيرة رامبو . ولكن مؤرخيه وشرّاحه ومفسريه قد بالغوا فيها وهوّلوا في وصف أحداثها ووقائعها ، وأفرطوا في البحث عن تفاصيلها إفراطاً كبيراً ، وأضافوا إليها من مخيلاتهم الشيء الكثير . ذلك أنهم لم يعتمدوا على النصوص المدونة ( من وثائق ورسائل وأشعار ) فقط ، بل أضافوا إليها مصادر أخرى ، غير دقيقة ولا موثوقة ، أبرزها الذكريات الشخصية ومرويات الأقارب والأصدقاء والمعارف والجيران وغيرهم ، وزادوا على ما جاءت به الذكريات والمرويات تفاصيل مختلقة ، وتأويلات خاصة ، وأسبغوا عليه صفات أسطورية ، حتى ضاعت الحقيقة في خضم لا أول له ولا آخر .

إن أول من لجأ إلى التعويل على الذكريات ، ووضعها في عداد الحقائق هم أصدقاء رامبو مثل دولاهيه وأقاربه وخاصة أخته إيزابيل . فهؤلاء وأمثالهم دوّنوا بعد وفاته الكثير من ذكرياتهم عنه ، أو أفضوا بها إلى من دوّنها ، وأخذت هذه الذكريات ، في غالب الأحيان ، على أنها حقائق ثابتة ، على الرغم مما يخالطها من الأوهام والاختلاقات . ويلاحظ أن هذه الذكريات قد دوّنت بعد مرور مدة طويلة على وقوع أحداثها تصل إلى ربع قرن أو أكثر ، وحاولت استعادة أحداث ثانوية وفرعيات وهوامش طواها النسيان ، فكانت للعواطف والرغبات والأغراض والمنافع الخاصة أدوارها في توجيهها نحو وجهة تخدم هدف بناء الأسطورة ، وكانت للخيال لعبته السحرية في بنائها وسدّ ثغراتها وتزويقها .

وأسوأ من هذه الذكريات تلك الاستنطاقات التي قام بها المؤرخون والمحققون . فهم لم يدعوا قريباً من أقرباء الشاعر ، ولا صديقاً من أصدقائه ، ولا شخصاً يعرفه من قريب أو بعيد إلاّ لاحقوه واستنطقوه . وكان على كل واحد من هؤلاء أن يعتصر ذاكرته ، ويشحذ خياله ، ليقول لهم شيئاً يناسبهم ، فإن لم يجد اضطر إلى الاختلاق (.. رامبو ؟ قلت آرتور ؟ نعم . . كنت أعرفه .. نعم .. وأذكر أنه كان .. ) ثم يجند خياله وعاطفته وتشجيع مستنطقه ليقول أي شيء .

وهكذا دخل هؤلاء المؤرخون في مباراة محمومة في ما بينهم لجمع المعلومات بهذه الطريقة وأشباهها . فكان على كل منهم أن يضيف ، إلى ما جاء به من سبقه ، معلومات جديدة ، وذكريات أخرى ، وحكايات غير التي رويت من قبل ، وشهوداً جدداً ، صادقين أو كاذبين . وكان بعض هؤلاء يبذل جهوداً مضنية من أجل التحقق من معلومة ذات قيمة جد ثانوية على صعيد دراسة سيرة الشاعر وشعره ، فيُضَخِّم نسيج الأسطورة بما هو غير ضروري ولا مهم .

وقد زادت الحالة سوءاً تلك المزاعم التي جاء بها الشرّاح والمفسرون ، ولعب التأويل ، والخيال الصرف ، والإنشاء الأدبي دوراً أساسياً في بنائها وتزويقها ، حتى دخلت هي الأخرى في عداد الحقائق ، وعوملت وكأنها جزء من سيرة الشاعر وحقائق حياته .

بل لقد ذهب المؤرخون حداً من الإفراط جعلهم يكتبون سير أقارب رامبو بدلاً من الاكتفاء بسيرته الشخصية . فإذا بنا أمام سيرة لأبيه ، وأخرى لأمه ، وأخرى لأخيه ، فأختيه ، فابنة أخيه ، فجده ، فخاليه . ثم تحولوا إلى أصدقائه فصرنا أمام سير أخرى : لدولاهيه ، وإيزامبار ، وديميني ، ولاباريير ، وسواهم . وبفضل الاهتمام به عرفنا عن فرلين وحياته العائلية أشياء ما كنا سنعرفها لولا هذا الاهتمام . بل لقد عرفنا عن أم فرلين ، وزوجته ، وأبويها ، وأخيها من أمها ، أشياء ما كانت لتكون موضوع اهتمام عند أحد ، حتى وصل الأمر إلى شخصيات غامضة مغمورة مثل شارل دو سيفري وشارل بريتاني ، وإلى ناشرين وتجار وخدم وسواهم يعدون بالعشرات ، وكان كل ذلك يدخل في نسيج سيرة رامبو ويضيف عناصر لنفخها وتزويقها .

وهكذا صرنا أمام معلومات غزيرة جداً ، وتفاصيل كثيرة جداً ، فيها الكثير من الأوهام ، والكثير من التناقضات ، والكثير من الاختلاقات ، حتى غيبت الحقيقة وراء أغطية كثيفة من الهراء والزيف ، ونشأ عن ذلك ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح : أسطورة رامبو .

بل أن هذه الأسطورة نفسها أصبحت من التعقيد والتشعب بحيث غدت مجموعة من الأساطير ، نشأت حول كل منها نظريات اختلفت حولها الآراء والاجتهادات ، وصارت مواضيع لجدل جانبي عقيم . حتى صار كل دارس جاد لرامبو يجد نفسه مضطراً إلى البحث عن بداية جديدة يبدأ دراسته منها ، غير تلك التي بدأ منها سواه ، ليتفادى ما يستطيع تفاديه من الأخطاء والأوهام والاختلاقات ، ويصل إلى صوت رامبو من خلال ضجيج الأصوات الأخرى .

تتساءل إينيد ستاركي في السطور الأولى من كتابها المهم : آرتور رامبو ( أيمكن رسم صورة صحيحة لرامبو من عدد لا يحصى من التناقضات والتعقيدات التي يواجهها النقد ؟ أيمكن رسم الصورة التي تجعل رامبو معروفاً كإنسان ، وليس فقط مجموعة من التجريدات التي ربط بعضها ببعض بصورة مفككة ؟ ) .

وتعترف إينيد ستاركي فتقول ( من الصعب تسوية كل هذه التناقضات ودمجها في كل متماسك ) ولكنها ، كغيرها ، لا تمتنع عن القيام بالمحاولة .

غير أن جان كاسو رأى ( أن أية محاولة للدمج من هذا النوع لا ترجى منها فائدة ) !

أما إيف بونفوا فينصحنا منذ السطر الأول من كتابه رامبو بقلمه قائلاً ( لكي نفهم رامبو علينا أن نقرأ رامبو ، راغبين في فصل صوته عن أصوات كثيرة اختلطت به ) .

ولكن كيف يمكن أن نفصل صوت رامبو عن الأصوات الأخرى وقد امتزجت بصوته حتى غدت وكأنها صوت واحد ؟

إن العودة إلى النصوص الرامبوية لم يعد كافياً ولا ممكناً لمعرفة رامبو . فما كتب عن سيرته ألقى ظلالاً كثيفة على شعره وتفوهاته النظرية ، حتى لم يعد ممكناً أن نقرأه بمعزل عما نسج حول شخصه . لقد تحول رامبو ، شئنا أم أبينا إلى أسطورة دخل في نسيجها كل ما كتب عنه ، مهما كان بعضه تافهاً ، أو عرضياً ، أو ملفقاً .

إن بونفوا نفسه ، بونفوا الذي قدم لنا تلك النصيحة ، لم يستطع أن يتخلص من عبء الذكريات والمرويات ، ولم يكن لديه من أداة في الكتابة عن رامبوغير التأويل، على الرغم من أنه أراد أن يقدم لنا رامبو بقلم رامبو : Rimbaud par lui même .

لهذا نقول إن قراءة رامبو قراءة صحيحة ينبغي أن تبدأ بتفكيك نسيج أسطورة رامبو . وهذا لا يكون ، كما نرى ، إلا بقراءة نقدية صارمة ، قراءة معيارية بالدرجة الأولى ، لا لتقول شيئاً جديداً فحسب ، بل لتقترب من حقيقة رامبو ومن قيمة ما قدمه على صعيد الشعر وعلى صعيد النظرية الشعرية . وهذا ما تطمح إليه هذه القراءة المتواضعة .

الصفحات