أنت هنا

قراءة كتاب أرتور رامبو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أرتور رامبو

أرتور رامبو

كتاب " أرتور رامبو " ، تأليف سامي مهدي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 9

رامبو وكومونة باريس

يدعي مؤرخو رامبو ومفسروه أنه كان قد تطوع للقتال مع مقاتلي (كومونة باريس ) وحضر جانباً من أحداثها . وقد أضفى المؤرخون على هذا الحضور طابعاً درامتيكياً ربما لم يضفَ مثله على مشاركات أبطال حقيقيين من أبطال الكومونة . وقد لعبت الدعاية السياسية اليسارية دوراً مهماً في الترويج لهذا الأمر واستثماره لأغراض دعائية خالصة ، حتى زعم بعضهم أن أباه نفسه كان حاضراً هو الآخر في هذه الأحداث ، ربما بحكم واجباته العسكرية . وكانت النتيجة إضافة رتوش أخرى لأسطورة رامبو وإحاطتها بهالة ثورية براقة تكمل زينتها وجاذبيتها .

ولكن ما حكاية رامبو والكومونة ؟

مر بنا أن رامبو تلقى عن معلمه إيزامبار أفكاراً جمهورية واشتراكية ، وقرأ عنده كتباً ممنوعة وصحفاً سرية تدعو لهذه الأفكار . وكانت هزيمة فرنسا أمام بروسيا في حرب السبعين ( 1870 ) قد حزت في نفسه وملأتها بالمرارة وبالنقمة على النظام الإمبراطوري ، حتى إذا انفجرت ثورة الكومونة حدثته نفسه بالالتحاق بصفوف الثوار .

وبحسب رواية لفرلين ( ربما نقلها عن رامبو ) أنه قدم نفسه في باريس إلى مجموعة من الثوار ، مدعياً أنه أحد تلاميذ بلانك ، وأنه أرسل إلى باريس من قبل لجنة ( الأردين ) فقبلوه في صفوفهم ، برغم صغر سنه . وقد ردد هذه الرواية وأشباهها مؤرخون مثل دولاهيه وبريشون وكولون وكاريه ، ونسجوا حولها أسطورة كاملة بتفاصيلها ورتوشها ، وكأنهم كانوا شهود عيان . فقد رووا أن رامبو رحل من شارلفيل إلى باريس سيراً على الأقدام ، ولم يكن لديه أي مبلغ من المال ، وما إن أصبح خارج المدينة حتى أخذ يتعلق بالعربات العابرة ، ويتعرف على أصحابها ، ويبادلهم الأحاديث والقصص ، وما إن تصل به عربة إلى قرية حتى يودع صاحبها ويبحث عن عربة أخرى يقطع بها جزءاً آخر من الطريق . وكان إذا جن الليل ينزل ضيفاً على بعض الفلاحين ، أو ينام مع عمال الطرق ، فيسامرهم بحكايات غريبة يبتكرها ، ويحدثهم بحماسة وانفعال عن أفكار روسو وبابو والحركات الاشتراكية ، ويتبلّغ بما يقدمونه له من زاد قليل ، وهكذا حتى وصل باريس . ( ترى من كان معه حتى يصف الرحلة بمثل هذه التفاصيل ؟! ) .

ويزعم المؤرخون أنه شهد في يوم التحاقه بالثوار معركة نشبت بينهم وبين أنصار الإمبراطور استعملت فيها الرشاشات ، وأنه قضى معهم أياماً من غير سلاح في ثكنة للتدريب كانوا قد لجأوا إليها . ثم نشبت في ( 16 مايس 1871 ) معارك شديدة بين الطرفين قتل فيها عدد كبير من العمال وارتكبت أعمال وحشية دامية ، ودامت هذه المعارك أسبوعاً كاملاً سمي باسم ( الأسبوع الدامي ) . وقد تركت هذه المعارك في نفس رامبو مرارة الخيبة ، وبددت الكثير من حماسته . وفي ليلة قمراء ، وبينما كان الجنود يسمرون في الثكنة ، التف بمعطف قديم وخرج من الثكنة هارباً ، وظل يمشي طوال الليل حتى رأى نفسه عند الفجر على طريق شارلفيل ، فعاد إليها ووصلها بعد أيام .

هذا هو موجز الأسطورة ، وهي تروى عادة بمزيد من التفاصيل ، ومزيد من الوصف الإنشائي المؤثر . ويذهب بعض المؤرخين وبعض المفسرين ، ومنهم كولن ولسون ، إلى أن رامبو قد اغتصب جنسياً خلال هذه المغامرة ، ولا يعرف من اغتصبه أهم رفاق الكومونة أم جنود الإمبراطور ، وهنا تلعب الميول السياسية في تحديد هوية المغتصبين . فاليمينيون يتهمون رفاق الكومونة ، واليساريون يتهمون جنود الإمبراطور ، والمهم هنا ليست هوية المغتصب ، بل الاغتصاب ونتائجه .

ويقال إن هذه التجربة المرة قد أسفرت عن قيامه بكتابة عدة قصائد ، منها ما ضاع ومنها ما بقي ، فما ضاع منها هما قصيدتا ( عشاق باريس ) و ( موت في باريس ) . أما ما بقي فقصائده ( الخلاعة الباريسية ) و ( القلب المسروق ) و ( أغنية حرب باريسية ) .

أليست هذه حكاية محكمة النسيج ؟ بلى ، ورواتها يبدون ثقاة في الوهلة الأولى . فأولهم رامبو نفسه ، أما الآخرون فصديقاه فرلين ودولاهيه ، وصهره بريشون . وثمة قصائد معلومة كتبت في الواقعة ، وثمة وثيقة تعززها هي رسالة رامبو إلى إيزامبار المرسلة بتاريخ 13 مايس 1871 . فقد كتب يقول ( سأصبح عاملاً. هذه هي الفكرة التي تملكتني حينما كان الغضب الجنوني يدفعني نحو معركة باريس ، حيث يموت الكثير من العمال بينما أنا أكتب إليك ) . ويقال إن رامبو رحل بعد هذا إلى باريس ليقاتل مع الثوار .

لكن الملاحظ أن المصدر الأول ، والوحيد ، لأصل الحكاية هو رامبو نفسه ، أما الباقي فتكفل بصياغته وتزويقه الرواة والمؤرخون . ورامبو ، في رأي بعض المحققين ، قد يقول ما لا يفعل . فرامبو هو الذي حدث صديقيه عن رحلته المفترضة إلى باريس، وهو من كتب القصائد ، وأرسل الرسالة إلى إيزامبار . ولو دققنا في القصائد المتبقية لاكتشفنا أنها كتبت بعد أن انتهت واقعة الكومونة وليس في أثنائها ، وليس فيها ما يدل ، أو يثبت ، أنه كان قد شارك في المعركة مشاركة فعلية أو حضرها مجرد حضور .

إن الوقائع تثبت أن هذه الحكاية مختلقة جملة وتفصيلاً . فرامبو لم يلتحق بثوار الكومونة ولم يشهد أياً من أحداثها . ورحلته الأولى إلى باريس كانت في 25 شباط 1871 واستمرت حتى 10 آذار 1871 ، أي قبل اندلاع المعركة التي يزعم أنه حضرها بنحو شهرين ، وهو لم يرحل ثانية إلى باريس إلا بعد تلقيه دعوة فرلين الشهيرة .

ينسب إلى دولاهيه أنه يتذكر أن رامبو ذهب إلى باريس في نيسان 1871 سيراً على الأقدام ، ووصلها بعد ستة أيام ، فالتحق بثوار الكومونة في ثكنة بابلون ، في حين أن المؤكد هو أن رامبو كان ما يزال موجوداً في شارلفيل حتى 15 مايس من ذلك العام في الأقل ، إذ أرسل إلى كل من إيزامبار وديميني رسالتيه الشهيرتين ( 13 و 15 مايس 1871 ) فكيف نوفق بين ما تتحفنا به ذاكرة صديقه دولاهيه وبين هاتين الحقيقتين ؟ ترى هل اختلطت الأمور على ذاكرة الرجل فظن أن رحلة رامبو إلى باريس في شباط من ذلك العام قد حصلت في نيسان ؟

وهناك من يحاول أن يكيّف الأمر فيزعم أن رامبو التحق بالكومونة في أواسط الأسبوع المعروف باسم الأسبوع الدامي ( 22 – 28 مايس 1871 ) ، ولكن هذا يدعو للتساؤل : لماذا يفعل رامبو هذا بعد مرور أكثر من شهرين على انفجار الثورة ، وفي وقت كان فيه الكومونيون يندحرون في موقع تلو آخر ؟ أترى خفّ لنجدتهم أم ماذا؟!

الصفحات