أنت هنا

قراءة كتاب أرتور رامبو

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أرتور رامبو

أرتور رامبو

كتاب " أرتور رامبو " ، تأليف سامي مهدي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 4

بوهيمية رامبو

أوضحنا في ما سبق كيف كتب المؤرخون سيرة رامبو ، وذكرنا أنهم نقّبوا في تاريخ عائلته ، وعائلتي أبيه وأمه ، وذكريات أصدقائه ومعارفه ، وأفرطوا في البحث عن التفاصيل ، وهوّلوا في عرضها ووصفها ، وأعطوا للكثير منها ما لا يستحقه من الاهتمام ، وعلقوا عليه أهمية ليس جديراً بها ، واختلقوا تفاصيل كثيرة ، وابتدعوا لها حكايات لعب الخيال الصرف والإنشاء الأدبي دوراً أساسياً في صياغتها وتضخيمها وتزويقها .

وربما كانت بوهيمية رامبو من أكثر ما تعرض لهذا التضخيم والتزويق . فعلى الرغم من كون البوهيمية سلوكاً عارضاً طرأ عليه في حقبة من حياته لا تتجاوز أربع سنوات ، كما سنرى ، كتب المؤرخون عنها ، وأوردوا حكايات كثيرة ، بتفاصيل كثيرة ، حقيقية ومختلقة ، واجتهدوا في تقديم شخصية بوهيمية نموذجية ترقى بها إلى مستوى تجريدي خالص لا يبقي لها إلا صلة مصنوعة بالشخصية الأصلية ، أي الشخصية التي عاشت على أرض الواقع ، وبين الناس ، وكانت لها مع الناس صلات بشرية ملموسة ، ومحددة .

فقد تعامل المؤرخون مع رامبو وكأنه ولد بوهيمياً ، وعاش بوهيمياً ، ومات بوهيمياً . فهو بوهيمي خلقةً ، وبوهيميته خصلة موروثة ، شأنها شأن زرقة عينيه وبياض بشرته ، فرافقته منذ ولادته حتى مماته . وعلى هذا الأساس الواهي نشأت نظريتان وظّفت لكل منهما الكثير من الروايات ، واستعمل في نسجهما الكثير من الخيال والإنشاء . تقول النظرية الأولى : إن أباه هو مصدر بوهيميته ، وتقول النظرية الثانية : إن أمه هي مصدرها . وربما كانت هناك نظرية ثالثة تمزج بين النظريتين .

فأوائل المؤرخين ، الذين كانوا على صلة بعائلته ، وكان عليهم أن يحصلوا منها على الوثائق والمعلومات ، قالوا بالنظرية الأولى ، ومنهم إرنيست دولاهيه وباتيرن بريشون . أما الآخرون ، وفي مقدمتهم غودشوت وإينيد ستاركي ، فقالوا بالنظرية الثانية . ومع ذلك اتفق أصحاب النظريتين على أن سلوك أمه حياله كان عاملاً مباشراً في دفعه إلى الحياة البوهيمية الصاخبة .

أصحاب النظرية الأولى تعاملوا مع الموضوع على قاعدة ( الإبن سر أبيه ) المعروفة . فكلما تحدث أحدهم عن بوهيمية رامبو تذكر أن له أباً ، وأشار إلى عربدة أبيه وتهافته على الملذات ، ولكن من دون أدلة ملموسة ومعلومات محددة . ولم ينس هؤلاء أن الأب من أسرة بورغونية عرفت بحب المغامرة والخمر والنساء ( كذا ) ولم يفتهم أن يضيفوا أن شأن الأب في ذلك شأن سكان مقاطعة بورغونيا ( بلاد الشمس والنبيذ ) . وكأن كل ذلك عناصر امتزج بعضها ببعض امتزاجاً حتمياً لنحصل على نتيجة لا مجال للمصادفة فيها هي : هذا الفتى البوهيمي الشاذ !

الطريف في الأمر أن أسرة رامبو كانت تقيم في ( الأردين ) وليس في (بورغونيا) التي تبعد عنها بمئات الأميال . ولم يرد في جميع ما عرف من سيرة رامبو أنه زار مقاطعة بورغونيا أو اتصل بأحد من أسرة أبيه ولو عن طريق المراسلة . وأطرف من ذلك أن رامبو نفسه لم ير أباه منذ ولادته عام 1854 حتى وفاته ( وفاة أبيه ) في ديجون عام 1878 سوى مرتين : الأولى عندما كان عمره سنتين ، والثانية كانت بعد الأولى بثلاث سنوات . وإذا وثقنا بدولاهيه فإن الذكرى الوحيدة التي يحتفظ بها رامبو عن أبيه : وعاء فضي من مقتنيات العائلة تقاذفه الأبوان في غضب فأحدث ضجيجاً أرعب الأطفال . هذا وقد مات رامبو الأب ورامبو الإبن خارج فرنسا فلم يحضر جنازته ، ولا زار قبره في أي وقت من الأوقات . إذن كيف ورث الإبن بوهيميته عن أبيه ؟ ليس أمامنا وفق هذا المنطق إلا أن نقتنع بأن بوهيمية رامبو كانت كامنة في جينات أبيه ، فورثها عنه ، سواء رضيت بذلك قوانين علم الوراثة أم لم ترض .

غير أن مؤرخين آخرين ، ربما أرادوا أن ينتصفوا للأب ويبرّئوه من هذه التهمة ، فاستهدفوا الأم ، لأنها ، كما يرون مصدر كل عذاب لحق برامبو ، وأصل كل شر أصاب العائلة . وهكذا بحثوا في سيرة الأب عن كل ما يظهره بمظهر الشخصية الجادة اللامعة ، وجاءوا بتفاصيل أخرى من سجل خدمته في الجيش الفرنسي ، ثم التفتوا إلى الأم وتاريخ عائلتها ، فراح غودشوت ينقب فيه ، ويجد في سيرة أخويها جان – شارل فيلكس كويف ، وشارل أوغست كويف ، ما يرجح أن رامبو ورث بوهيميته من خاليه ، أي عن طريق أمه .

ففيلكس كويف كان فتى طائشاً مغامراً ، قيل عنه إنه اقترف جريمة غامضة وهو في السابعة عشرة من عمره ، فتطوع في الجيش الفرنسي في الجزائر تخلصاً من العقوبة ، وقضى هناك حياة حافلة بالمغامرات ( التي لا ندري ما هي ) حتى أطلق عليه بسببها لقب : الإفريقي . غير أنه عاد بعد تلك المغامرات إلى عائلته عليلاً ، وكان ذلك قبل زواج أخته ( أم رامبو ) بنحو سنتين ، وما إن عاد حتى طالب بنصيبه من الإرث العائلي ، ولكن علته ( المجهولة ) لم تمهله طويلاً ، فمات بعد ذلك بعام ، وظل بالنسبة إلينا نحن شخصية غامضة ، وجذابة على نحو ما ، تضفي شيئاً من غموضها ، وشيئاً من جاذبيتها ، على شخصية رامبو ونسيجها الأسطوري ، وإن من بعيد .

أما أوغست كويف فكان أصغر من أخته بخمس سنوات . عاش خلال حقبة اختفاء أخيه مع أبيه وأخته يساعدهما في بعض أعمال المزرعة التي تملكها العائلة في روش . ولكنه كان محدود الفعالية والنشاط ، وكانت أخته صارمة في معاملته ، فتزوج في الثانية والعشرين من عمره هرباً من صرامتها . وكان ذلك قبل زواجها من الكابتن رامبو بعام . وبعد هذا الزواج قرر كويف الأب أن يعيش مع ابنته في شارلفيل ، وأوكل لابنه أوغست إدارة المزرعة بعد أن أعطاه مبلغاً من المال . غير أن هذا سرعان ما تحول إلى سكير متلاف ، بذر المال الذي أعطي له لإدارة المزرعة ، ثم أخذ يسيء معاملة زوجته حتى اضطرت إلى تركه والعودة إلى أهلها . وعندئذ خلا له الجو ، فأهمل المزرعة إهمالاً كاملاً حتى لحق بها الخراب . ولم يكتف بذلك ، بل راح يطالب ببيع نصيبه منها ، فأعطي لقاء ذلك مبلغاً آخر من المال ، ولكنه سرعان ما بدد هذا المبلغ كما بدد غيره ، وراح يتشرد في الأرياف ، فكان يتنقل بين أبناء الأعمام والأخوال طلباً للمساعدة ، أو يفد على أخته فيتالي بحثاً عن مبالغ أخرى ، وكانت هذه تعطيه مرة ، وتمنعه في الثانية ، ومع ذلك خيب ظن المؤرخين فعاش حتى طعن في السن ، ومات في الرابعة والتسعين من عمره في دار للإيواء تديرها الكنيسة ، ولكنه حابى المؤرخين ، فكان وهو على فراش الموت ، يأبى الاعتراف ، ويرفض تناول القربان المقدس ، ويطلب بدلاً من ذلك ليتراً من النبيذ الأحمر !

لا عجب إذن أن يولد رامبو بوهيمياً . فالبوهيمية تجري في عروق خاليه ، وثلثا الولد خاله ، كما يقول المثل الشعبي في العراق . وهكذا أتيح لبعض المفسرين (إينيد ستاركي وغيرها ) أن يأتوا بالنظرية الثانية ، فيزعموا أن بوهيمية رامبو جاءته إرثاً عن أمه ، وليس عن أبيه . وسواء أخذنا بالنظرية الأولى أم بالنظرية الثانية ، أم بكلتيهما ، فإن علينا أن نقبل ما رواه الرواة حول عائلة أبيه وعائلة أمه ، وأن نقر قبل ذلك وبعده بأن رامبو كان بوهيمياً خلقةً ، وبهذا فقط يصلح أن يكون النموذج البوهيمي المطلوب .

الصفحات