كتاب " أرتور رامبو " ، تأليف سامي مهدي ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أنت هنا
قراءة كتاب أرتور رامبو
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
رامبو وأمه
حين نقرأ ما كتبه المؤرخون عن فيتالي كويف ، ونمعن في تفاصيله ، فلابد لنا من أن نعجب من هذه الصورة البشعة التي رسموها لها وندرك أن هذه الصورة زائفة ، لا تمثل الأصل ، ولا تعبر عن حقيقته ، وهي صورة تجريدية رسمت لمتطلبات بناء ( النموذج الرامبوي ) .
لقد أراد المؤرخون أن يحمّلوا فيتالي كويف مسؤولية كل تصرفات ابنها الشاذة. فهي ليست امرأة متزمتة في تدينها فحسب ، بل هي حازمة وصارمة وقاسية أيضاً ، وهذا ما دفع ابنها إلى التمرد في زعمهم . ومن هنا راحوا يبحثون عن كل موقف من مواقفها يلمسون فيه شيئاً من الصرامة والحزم تجاه حماقات ابنها وتصرفاته الطائشة أيام جنوحه ، وإن لم يجدوا فلا بأس إذن في أن يتخيّلوا ويختلقوا . فإذا كتبت رسالة إلى معلمه إيزامبار ، الذي اكتشفت أنه يزوده بالكتب الممنوعة ، وطلبت منه بلباقة وتهذيب ألا يفعل ، وإذا شكته في ما بعد إلى مدير المدرسة طالبة منعه من إفساد ابنها المراهق ، استكثروا عليها ذلك ، وعدّوا تصرفها نوعاً من الصرامة التي دفعت الإبن إلى التمرد على أمه ومعاداتها . وإذا حبس الإبن في مصادفة سيئة واتهمت أمه إيزامبار بتشجيعه على تصرفاته الطائشة ولامته على إيوائه في منزله ، انتصروا جميعاً للمعلم الطيّب ، واستنكروا حزم الأم المجروحة في كرامتها ، والمفجوعة في ابنها الذي بنت عليه أحلامها ، وزادوا صورتها جفوة وبشاعة . وهم في كل ذلك يتناسون أنها أمه ، وأية أم ؟ أم في بلدة صغيرة كان زوجها بعيداً عن أسرته دائماً ، ولم يكد أكبر أبنائها الأربعة ( فريدريك ) يبلغ السابعة حتى انفصل عنها وتركها وحيدة تواجه مسؤولية إعالتهم وتنشئتهم بمفردها ، ولم يكن عمرها يزيد على خمسة وثلاثين عاماً ، وكان دخلها السنوي لا يزيد على ( 300 ) فرنك . فهل كان أمراً شاذاً أن تمنع هذه الأم ابنها من قراءة كتاب تعتقد ، خطأ أم صواباً ، أنه يشجعه على الانحراف ، وتؤنب رجلاً غريباً أحست بغريزتها أنه يفسد ابنها ؟ أليس هذا ما كانت ستفعله أية أم وحيدة حماية لابنها المراهق ؟ وهل في هذا إلا ما هو مألوف وطبيعي وغريزي لدى كل أم حتى يومنا هذا ، إلا إذا كانت أماً شاذة حقاً لا يهمها أمر أبنائها ؟
ولا يكتفي هؤلاء المؤرخون بتقديم هذه الصورة عن تزمّت فيتالي كويف ، بل يعمدون إلى تجهيلها والسخرية منها . فهم يصدقون إيزامبار ويزعمون أن الكتاب ، الذي أعاره لابنها واعترضت عليه يومها ، لم يكن سوى رواية ( أحدب نوتردام ) وأنها كانت تظنه رواية فيكتور هوغو الشهيرة ( البؤساء ) . فهي إذن أم جاهلة لا تفرق بين هذه وتلك ، وهي حمقاء متسرعة تشكو مما لا تعرفه ، ولكنهم يتناسون هنا أن إيزامبار كان يضع بين يدي ابنها كل ما لديه من كتب وصحف ممنوعة ، وأن الأم كانت تعترض على المبدأ أكثر مما تعترض على كتاب بعينه .
نريد أن نقول : إن مؤرخي رامبو جعلوا الطبيعي شاذاً والشاذ طبيعياً ، لكي يجدوا مسوّغاً لتمرده ، حتى جعلونا نبغض أمه بالمقدار الذي نشفق به عليه . ترى لو كانت هذه الأم شاذة حقاً ، ولو انشغلت بنفسها عن أبنائها ، أو ارتبطت بعد انفصال زوجها عنها برجل آخر يلهيها عنهم ، أما كانوا سيقولون عنه ، كما قالوا عن بودلير ، إن سبب تمرده هو إهمال الأم ، وليس تزمتها وصرامتها ؟
وهكذا نجد أن هؤلاء قد نقّبوا عن كل صغيرة وكبيرة في تاريخ هذه العائلة ، والتقطوا كل التفصيلات ، حتى أتفهها ، وبالغوا في وصفها وعرضها ، وحملوها ما طاب لهم من الدلالات ، واختلقوا تفصيلات أخرى تسندها ، ليبرهنوا أن فيتالي كويف أم سيئة ، وأنها كانت السبب في جنوح ابنها . بل هم جهدوا في أن يرسموا لها صورة بشعة، منفرة ، مجردة من كل الحسنات . فهم يحمّلونها مسؤولية انفصال زوجها عنها ، مع أن زوجها هو الذي بادر إلى الانفصال . وهم يزعمون أن ( روح زوجها الحية المغامرة ) ما كانت لتنسجم مع أخلاقيات امرأة متزمتة صارمة مثلها . وهم يدعون أنها كانت تلقن أبناءها أنهم ورثوا كل شيء سيء عن أبيهم . بل أن إينيد ستاركي ، بخلاف جان ماري كاريه ، ترى أنها لم تكن جميلة ولا فتيّة ، فتصفها ، من خلال صورة لها ، من رأسها حتى أخمص قدميها ، ثم تتساءل عما دفع الكابتن فريدريك رامبو إلى اختيارها زوجة له ، بل هي تقول ( ربما كانت هي التي اختارته زوجاً لها ، فهي امرأة لا تنقصها الشجاعة ولا العزيمة ) ! هذا مع أن فيتالي تزوجت من الكابتن رامبو وهي في الثامنة والعشرين من عمرها ، وكان زوجها يكبرها بأحد عشر عاماً .
أما غودشوت فيصفها بأنها بخيلة ومحتالة تلاعبت بحصة أخويها من الإرث العائلي ، وعاملت أخاها الذي يصغرها بجفاء ونكران ، ولم تكن سبباً في زواجه المبكر وانفصاله عن العائلة فحسب ، بل كانت سبباً في تشرده وفاقته أيضاً ، ليبدو لنا طبيعياً أن تكون سبباً في تمرد ابنها وتشرده .
غير أن هناك وقائع كثيرة تثبت أن هذه السيدة ، ذات الدخل السنوي المحدود ( 300 فرنك ) والمسؤولة عن إعالة أربعة أطفال ، لم تكن بخيلة ، بل كانت امرأة منظمة مدبرة . والدليل على ذلك أنها لم ترغم أحداً من أبنائها ، وخاصة ابنها الشاعر ، على العمل المبكر ، بل علمتهم ، وأنفقت على تعليمهم بسخاء ، وحين لمست في رامبو نبوغاً استأجرت له معلماً خاصاً يعلمه اللاتينية واليونانية ، إضافة إلى ما كان يتلقاه من تعليم في المدرسة . ثم أن هذه السيدة التي تتهم بالبخل هي التي تبرعت بنفقات طبع كتابه ( فصل في الجحيم ) من دون أن تأمل بأي مردود غير المردود المعنوي على ابنها ، وحين كتب لها من لندن عام 1874 مدعياً المرض ، خفت إليه بصحبة ابنتها فيتالي لترعاه وتنقذه من إفلاسه . وهي بعد ذلك لم تكن أختاً محتالة ، بل كانت تخشى من أن يبدد أخواها الطائشان إرث العائلة ، ومصدر رزقها الوحيد ، كما بددا ما أعطيا من أموال مرة بعد مرة .
ولكن المؤرخين يصرون ، مع ذلك ، على البحث عن المزيد من التفاصيل الهامشية لتبشيع صورتها ، حتى إذا علموا أن لها حفيدة ولدت سفاحاً من ابنها الكبير فريدريك ، وأودعت منذ طفولتها في دير ، بحثوا عنها حتى وجدوها ، ثم راحوا يستنطقونها وينقلون عنها المزيد من مثالب جدتها . فقد وصفت الحفيدة الجدة بأنها ( امرأة شريرة غالباً ما كانت تخرج مساء لتنقل علامات الحدود الفاصلة بين حقلها وحقول جيرانها ) لتوسيع مساحة حقلها ، وأنها ( ردمت ذات مرة نبعاً لئلا يستقي منه القرويون ) .
إذن ، هذه هي الصورة التي رسمها المؤرخون لفيتالي كويف : زوجة قبيحة منفرة سيئة الخلق ، وأم متزمتة صارمة ، وأخت بخيلة ومحتالة ، وجدة لئيمة قاسية، وجارة شريرة عدوانية . ولسنا هنا في معرض الدفاع عنها ، ولكننا نريد أن نوضح كيف قدمها المؤرخون في أبشع ما استطاعوا من صورة ، وكيف جرّدوها من كل صفة إنسانية ، لكي يزعموا أنها كانت السبب في جنوح ابنها. بل هي (امرأة لا إنسانية) في نظر ستاركي . وكان كل مؤرخ جديد يضيف إليها مثلبة ، بل مثالب ، جديدة ، ويضع على صورتها المرسومة رتوشاً منفرة أخرى حيثما وجب ذكرها ، حتى جعلوا منها أسطورة مجسدة من أساطير الشر ، لكي تقابل أسطورة ابنها الطفل العبقري وتكون نقيضها الحاد . فأم كهذه لا يمكن أن تقدم للحياة إلا غلاماً كهذا الغلام . وبذلك جعلوا من الإبن الطائش المنحرف ضحية من ضحايا أمه الكثيرين ، فأضفوا على تمرده وبوهيميته وزندقته مسحة بطولية ، ومعنى من معاني الشهادة ، وبهذا كله ، وبغيره، أسبغوا على شعره هالة من خارج الشعر ، وبنوا عمود أسطورته الفقري .