كتاب " سيكولوجية الإشاعة رؤية قرآنية " ، تأليف حسين السعيد ، والذي صدر عن دار دجلة ناشرون وموزعون ،
أنت هنا
قراءة كتاب سيكولوجية الإشاعة رؤية قرآنية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الإشاعة : ظاهرة اجتماعية قديمة
الإشاعة أو (الشائعة) Rumorظاهرة اجتماعية بالغة الأهمية ، ويضاعف من هذه الأهمية شيوعها في كل زمان ومكان ، وأنها مسلك مألوف من مسالك الجماعات. وهي أيضاً أقدم الوسائل الإعلامية في التاريخ.فقبل اعتماد الكتابة ،كانت المشافهة هي قناة التواصل الوحيدة في المجتمعات. وكانت الشائعة وسيلة لنقل الأخبار وبناء السمعة أو تقويضها،وتأجيج الفتن أو الحروب[(1)]. فهي ظاهرة اجتماعية وُجدت منذ أن وُجد الإنسان على الأرض، وشكل من أشكال الاتصال الإنساني المنطوق والمكتوب، ونوع من أنواع الاتصال الشخصي والجماهيري ، وأداة من أدوات الحرب النفسية. لذلك حظيت باهتمام علماء الاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد والإعلام، لما لها من تأثير كبير على حياة المدنيين والعسكريين في السلم والحرب[(2)].
الجدير ذكره أن كلمة (إشاعة) تستحضر بالنسبة إلى العامة ظاهرة غامضة وشبه سحريّة، يعكسها تحليل المفردات الرائجة. فالإشاعة تطير وتزحف وتتعرّج وتعدو، وهذا ما يجعلها على المستوى المادي أشبه بحيوان مباغت وسريع الحركة، يتعذّر أسره، ولا ينتمي إلى أيّة فصيلة معروفة . أما تأثيرها في البشر فأشبه بالتنويم المغناطيسي، وخصوصا ًأنها تبهر وتغوي، وتسحر الألباب، وتلهب الحماسة[(3)].
من هنا تُعد الشائعات وسيلة مؤثرة من وسائل الدعاية السوداء، وأداة رئيسية من أدواتها، لأنها تعمل على بث الذعر والكراهية، وتحطيم الروح المعنوية، وإثارة عواطف الجماهير، وبلبلة أفكارهم، خاصة في أوقات الحروب والأزمات، حيث يستولي على الناس الخوف والرعب[(4)].
وفي ضوء هذا؛ فالإشاعة سلاح من أسلحة الحرب النفسية ،إنْ لم تكن من أفتك أسلحة الحرب النفسية، لما لها من خاصيّة الانتشار السريع[(]1) لاسيّما وأن الإشاعة معلومة مجهولة المصدر عادة، إذ يتم صياغتها وإنتاجها وتسويقها في أوكار سريّة يحيطها الغموض والإبهام.
لهذا لا تتوافر لدينا معلومات كثيرة عن الشائعات..وعلى ما يبدو أن الشائعة التي تُعتبر حدثاً غامضاً وشبه سحري لا تزال تشكّل فضاءًً مبهماً، وربما يصحّ تشبيهها بمجاهل (ماتو غروسو) البرازيلية، على حد تعبير كابفيرير[(]2).
ولمّا كانت الأخبار السيئة تنتشر سريعاً جداً، كما يقول شكسبير[(]3)، فإن الإشاعة - في وقت الأزمات والحروب - تحظى من قطاعات عريضة أو أفراد عديدين بالاهتمام.. ويتداول الناس الإشاعة لا بهدف نقل المعلومات بل بهدف التحريض والإثارة وبلبلة الأفكار[(]4)، ويتمثل سلاح الإشاعة في خبر مدسوس كليّاً أو جزئياً، وينتقل شفهياً أو عبر وسائل الإعلام، دون أن يرافقه أي دليل أو برهان، ويقصد به تحطيم المعنويات[(]5).
إن المربك في الإشاعة هو إمكان إثبات صحّتها.ففي زمن الحرب، يمكن العدو وآذانه الوهمية، أو ما يُعرف بالطابور الخامس، معرفة بعض الحقائق المخفيّة،من خلال الإشاعة. وفي هذا دلالة كافية،على أن الإشاعة تقوم أحيانا ًعلى أساس صحيح.
من جهة أخرى ،اللافت أن الإشاعة كثيراً ما تصلنا عن طريق صديق أو زميل أو قريب ،ليس هو الشاهد المباشر على الحث المنقول، إنمّا هو مجرّد صديق لهذا الشاهد. ومنْ عساه يكون أكثر صدقيّة من الشاهد المباشر؟ وأي دليل منتظر يفوق شهادته صدقيّة؟. الواقع أن هذا الشاهد المباشر أشبه بصحافي عفوي ولا مبال ٍيدفعه إلى سرد الحدث حبّه للآخرين ،ورغبته في أن ينقل إلى أصدقائه ما رآه أو سمعه.
فمنذ أقدم العصور عرف الإنسان الحرب النفسية، وأثرها التخريبـــي في تماسك الشعوب والأمم والجماعات والأفراد، خصوصاً في حالة الحروب والأزمات والتحولات الاجتماعية والأحداث الجديدة، فاستخدمها كسلاح هدّام في صراعه الفكري والعسكري والسياسي والاقتصادي ...الخ[(]1).
وقد وجدت الإشاعة حيث وجدت المجتمعات البشرية، وتطورت مع تطور المجتمع، وتبلورت في ظل كل حضارة وثقافة، فأخذت أشكالاً متنوعة، وقد لعبت الإشاعة دوراً في التاريخ، فأدّت مثلاً إلى موت سقراط بتهمة تحريض الشبان في أثينا على التمرد والعصيان[(]2). يقول ألبورت وبوستمان في كتابهما ( سيكولوجية الإشاعة): إن أباطرة الرومان كانوا يعانون من الإشاعات التي تنتشر بين سكان المدن والقرى ، من أجل ذلك قام كثير من هؤلاء الأباطرة باستخدام حرّاس الإشاعات ، للاختلاط بالناس وتجميع الإشاعات التي يتناقلونها، وإبلاغها للإمبراطور، فضلاً عن إطلاق الإشاعات المضادة[(]3).
وقامت الحروب، في القرون الوسطى، نتيجة للمغالاة في رواية قصص المعجزات والجرائم والأسلاب. وكان لها دور في التعبئة النفسية في أوربا إبّان الحروب الصليبية.
في عصر النهضة الأوربية، وتحديداً في القرن الثامن عشر الذي يطلقون عليه (قرن الأنوار) ، ورغم النزوع إلى تحكيم العقلنة على ما سواها، وتأليه العلم وتفشّي الإلحاد، فإن شبح الإشاعة كان يفتك بالرأي العام كالوباء.فعلى سبيل المثال؛ رزح الشعب الفرنسي، طوال القرن الثامن عشر، تحت وطأة ست دورات طويلة من القحط، ذوت خلالها سنابل القمح، قبل موسم الحصاد،وارتفعت الأسعار. وإذا بالإشاعة تنطلق على نحو منظم موحية بمؤامرة مروّعة لتجويع الشعب، يقف وراءها الملك والمصرفيون والموظفون المحليون وضباط الشرطة وأصحاب المخابز.وقد رأى بعض المؤرخين ، في هاجس المؤامرة هذا نوعاً من الذُهان الجماعي، أو بمعنى أدق ؛ ذهان الهلوسة المزمن الذي يكون دليلاً على حال التخلّف العقلي.
وعلى غرار ما يؤكده (كابلان): من السهل الاقتناع بفرضية المؤامرة ،لأنها (الفرضية الوحيدة على ما يبدو التي تأخذ في نظر الاعتبار طبيعة الأزمات. فعندما ينظر رجال القرن الثامن عشر حولهم ، يكتشفون وقائع(...) تتجمع ،كأنها قطع أحجية).والواقع أن عوامل عدّة تأتي لترسّخ الشكوك في السياق الواقعي،ومنها على سبيل المثال؛ الشركات والمضاربة والاحتكارات وتورط أصحاب النفوذ. وقد حدث أيضاً أن اُلقي ببذور القمح في النهر، تحت ذرائع مختلفة .فالحياة في ظل النظام القديم كانت تفيض بدسائس تُحاك في البلاط الملكي، وأروقة النظام الإقطاعي. وبناءً عليه ، كانت العناصر القابلة للتصديق متوافرة بغزارة.لكن وحدها فرضية المؤامرة كانت تسمح بربط هذه العناصر)[(]1).
ومن الأمثلة التاريخية- ذات الدلالات- الإشاعة التي ساعدت على اندلاع الثورة الهندية ضد بريطانيا عام 1857م. فلقد كان الجنود الهنود العاملون في جيش الهند البريطاني يستخدمون بنادق تملأ من فوهة السبطانة (الماسورة)، وكان عليهم خلال الرمي أن ينزعوا بأسنانهم الورق المشحّم من طرف كل خرطوشة، حتى يسقط البارود في سبطانة البندقية، قبل وضع المقذوف في مكانه، واعتمدت الإشاعة التحريضية على هذا الأمر، إذ انتشرت بين الجنود المسلمين إشاعة تقول بأن الشحم المستخدم هو شحم خنزير، وخيّل للهندوس بأنه شحم بقر، وقد حاول الإنكليز وقتذاك إقناع الجنود بالقيام بأنفسهم بتشحيم ورق الخرطوش بالسمن النباتي[(]2).