كتاب " زهر البنفسج , زهر الرغبة " ، تأليف أنا كلافيل ، ترجمة رنا الموسوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر
أنت هنا
قراءة كتاب زهر البنفسج , زهر الرغبة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
طُردت سوزانا غارمينديا من دون تردد. قلة منا فقط رأتها تخرج حاملة أغراضها وخلفها والداها، تنهشها عيون الناظرة، وأهالي التلامذة ومدير المدرسة. كانوا يسرقون بقايا كرامتها، قبل رميها بازدراء كأنقاض ملطخة بالدماء وهي حية. لقد مرّ وقت طويل قبل أن تتمكن المدرسة من إسكات الشائعات والعودة إلى برامجها الببغائية واحتفالاتها الرياضية الوطنية. ومع اقتراب امتحانات نصف السنة، تلاشت آخر الأصداء التي كانت تلطخ سمعة سوزانا كمن يعذب جسداً. أما الأستاذ «انايا»، فبقي حتى آخر السنة الدراسية ثم طلب نقله إلى مدرسة في غرب البلاد.
بالطبع لم أصارحه يوماً في الموضوع. إلا أنه حين طلب إلينا، كفرض أخير، أن نكتب نصاً حول شخصية أو حادثة تناولها خلال دروسه، قررتُ أن أكتب عن «تانتاليس». كان نصاً من عدة صفحات بأسلوب حاد حتى المبالغة، كأسلوب المراهقين، وكانت قيمته الأساسية، بحسب ما أدرك الآن، هي فهمي في تلك السن الباكرة للعذاب الحقيقي الذي يعانيه من يشعر بالرغبة. ولم تكن جائزتي الكبرى العلامة الممتازة التي نلتها بل نظرة الأستاذ «انايا»، تلك اللحظة التي يشعر فيها المرء بالمجد حين يتم التعرف إليه. لم ألحظ أو لم أشأ أن ألحظ آنذاك في تلك النظرة بريقاً مضطرباً واستسلام من يدرك مصيره: إن الظمأ لا يمكن إرواؤه أبداً.
في ذاك النص الممتد على أربع صفحات، والمكتوب بأسلوب أعترف الآن بعد قراءته بأنه أعوج لا بل متكلف، تمكنت من لمح ظل المراهق الذي انحنى لاشعورياً فوق بئره الخاصة: بعد آلاف المحاولات، وبعد أن أدرك «تانتاليس» أن جهوده تذهب سدى، وعلى الرغم من الجوع والظمأ، بقي ساكناً لا يحرك شفتيه لابتلاع جرعة من الماء أو يمد يده لقطف الثمرة المرغوبة المتدلية من أقرب شجرة كالحجر الكريم. وحين بلغ منه اليأس مبلغه، رفع عينيه إلى السماء كمن يتضرع إلى الآلهة، وكأنه على وشك طلب السماح منها. لكن في تلك اللحظة بالذات، رأى عند طرف الغصن القريب منه ثمرة جديدة مرتعشة ولذيذة، إنما بعيدة المنال. ولا بد أنه شتم الآلهة ولعنها حين أدرك أنه بمجرد النظر إلى الثمرة، كان العذاب يغلي مجدداً في أعماقه.
للنظرة تبعات لا تحصى. الآن بوسعي تأكيد ذلك: كل شيء يبدأ بالنظرة، وبالتأكيد الاغتصاب الذي نخبره بلحمنا ودمنا حين يعرض أحدهم جسده ببراءة مجرمة.