من هناك، من تلك البيوت الناعمة المنمنة، من على سفح في جبل لا أعرف اسمه، من ضاحية النخيل، قلت لها كما قال نزار قباني: (صباحك سكر) يا عمّـان. صباح الورد والندى والخزامى. صباح الليلك والجوري وشقائق النعمان. أتهيّأ معك الآن ليوم آخر من أيام العمر.
أنت هنا
قراءة كتاب عن الأردن ومبدعيه
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
مقدمة لا بد منها
أول مرة رأيتُ فيها (عمّان) كانت في الخامس من تموز عام 4 6 9 1 جئتها صحبة أبي الذي زارها كثيراً، وكان فندق (فيلادلفيا)
آنذاك قرب الساحة الهاشمية، أمضينا فيه أربعة أيام قبل أن نسافر إلى (مصر) عن طريق البحر.
على ما أتذكر، لم يكن في عمّان شارع الجاردنز، ولا تلاع العلي، ولا أم أذينة ولا عبدون أوالرابية، وأظنها كانت أصغر عواصم
الدنيا، لكن دهشتي وسعادتي بتلك الرحلة القصيرة تحتاج إلى وصف يطول، فهي أول سفرة لي بجواز سفر شخصي يحمل اسمي بعد
أن سافرتُ (صغيراً) إلى طهران والكويت واستانبول، مصحوباً تحت اسم أبي في باسبورته الأخضر الذي كان يحافظ عليه بخوف كبير
ويشبكه تحت ثيابه بدبوس أنيق.
كنت أحمل كاميرتي وأمشي بحذاء خفيف بين التواءات الجبال وفروع الطرقات وشعاب العاصمة كما يفعل السيّاح، أمضي من جبل
الحسين إلى اللويبدة إلى سقف السيل إلى شارع السلط بفرح دونه فرح كريستوف كولومبس يوم اكتشف العالم الجديد (أميركا).. وما
تزال عندي حزمة من الصور أسود وأبيض وأنا على مدرجات الملعب الروماني وأمام بوابة (فيلادلفيا) الحجرية العملاقة وقرب سينما
(بسمان) عند بداية جبل عمّان.
ثم جئت عمّان ثانية عام 1 9 9 1 بعد مرور سبعة شهور على نهاية حرب الخليج الثانية، فوجدتها بثوب أجمل وقامة أطول تزهو في
النهار وتزداد زهواً في الليل، حتى إذا ما جئتها عام 9 9 9 1 للاقامة فيها، فوجئتُ بمدينة أخرى غير التي عرفتها منذ أربعين سنة،
وكان أول ما أدهشني فيها بعد مرور ستة أعوام على العيش بين أحضانها، حركة العمران والمتاجر الكبرى وتكنولوجيا المعلومات، ثم
اكشاك الصحف والمجلات واتساع رقعة المكتبات وحركة النشر الدؤوبة التي غمرت الشارع الأردني بمئات الكتب الثقافية والسياسية
والتأريخية والعلمية، إلى جانب العناية بأدب الطفل وزيادة معلوماته، في نظرة ثاقبة نحو المستقبل.
ست سنوات أمضيتها بين عمّان وجرش واربد والكرك، رأيت البترا والعقبة ووادي رم، انتقلت من فندق إلى فندق ومن بيت إلى بيت،
ما بين البيادر وجبل عمّان والجندويل والمدينة الرياضية وأبو نصير... صارت ذكرياتي تنمو بسرعة وأنا أصحو فجراً في فندق (رم
كونتيننتال) أول غرفة عشتُ فيها ليلة خروجي من وطني، جاءت بعدها شقق البترا (شخشير) ومنزل أم محاسن ثم شقة عدنان (أصغر
مساحة في الكون يعيش فيها رجل وزوجته) وبعدها، ولفترة ليست قصيرة في بيادر وادي السير، ما بين بيت أم أيمن وأم خالد الشاعرة
شهيرة الشريف التي أخبرتني الكثير عن طيبة الناس في هذا البلد الذي أحببت ثم أخيراً سقط الزين الطالع من بطن الحوت على شقة من
07 متراً مربعاً في (ضاحية النخيل) التي لم أجد فيها ولا نخلة واحدة إلاّ في الاعلان، في مجمع الفردوس الذي احتوى آخر أجزاء ابن
بطوطة دون أن يكتشف أرضاً أو يستقر على حال، فما يزال القلب ينبض تحت سماء طالما انهمر منها مطر المحبة وتناثر ذات الشرق
وذات الشمال وذات التأليف والكتابة عن المبدعين الذين قرأت لهم حقول الظلال وأشجار شعثاء باسقة وفالانتاين وليلة الريش ومطر
آخر الليل يوم أن بكيت على صديقنا الرائع مؤنس الرزاز، وأيقنت مع الدموع أن النجوم لا تسرد الحكايات وأنا أمشي مع لوعة التأريخ
ما بين وادي رم والبترا في أجمل أيامي مع عبقرية المكان، لا أدري لماذا تذكرتُ قول الشاعر:
كثرة الطعنات وراء ظهري
دفعتني كثيراً..
إلى الأمام.