يجد المؤلف نفسه في إعطاء تقييم للأراضي المقدسة عند تفحص وتدقيق مواده سواء المقدمة باختيار تاريخ بسيط من جهة، أو وصف محلي فحسب من جهة أخرى؛ وستقرر ميزة كتابه بالطبع باختيار ما سيعمله في الطبعة الأولى أو الثانية لهذا الكتاب.
أنت هنا
قراءة كتاب فلسطين في العصور القديمة - الأراضي المقدسة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ملاحظات تمهيدية
اهتمام مترافق بتاريخ فلسطين. ميزة شعب فلسطين القديم البارزة. بدايتهم الصغيرة وبروزهم المذهل. اختلاف ثرواتهم. موضوع لمشكلة مثيرة للدهشة للمؤرخين والسياسيين. ارتباط ذلك بالمسيحية. تأثير الدين على تقدم المجمع. الأماكن المقدسة. أسس الاعتقاد بالتقاليد القديمة. الإمبراطور قسطنطين والإمبراطورة هيلينا. آثار مقدسة باقية، مشاهد طبيعية. امتداد الكنعانيين. خصوبة الأرض. التوزيع الجغرافي للبلاد. المناطق الواقعة إلى شرق نهر الأردن. منطقة الجليل. غرب فلسطين. بيت لحم. أريحا. البحر الميت.
يطلق اسم فلسطين على ذلك الجزء من الإمبراطورية العثمانية الواقع في قارة آسيا ضمن خط طول 31 و34 شمالاً ويمتد من البحر الأبيض المتوسط إلى الصحراء السورية باتجاه شرق نهر الأردن والبحر الميت.
وسواء اعتبرنا هذه المنطقة مصدراً أو منبعاً لعقيدتنا الدينية، أو منبعاً قديماً لمعرفتنا التاريخية، فإن هذه البقعة الفريدة على الأرض اعتُبرت على مرّ العصور بأنها تمثل أعظم المشاعر للاهتمام وحب الاستطلاع. وكونها سُكنت لعدة عصور من قِبَل شعوب تميزت بشكل فريد عن الشعوب الأخرى، فهي تقدم سجلاً لأحداث فريدة لم تمر على أية أرض أخرى، لا زالت آثارها باقية تميزها عن باقي الأمم، وهي مرتبطة بقدر الجنس البشري كافة، وتمتد قدماً لاكتمال الأمور الدنيوية كافة.
من الناحية الفلسفية المجردة فلا شيء يمكن أن يبدو لافتاً أكثر من التأثيرات الواقعة على العالم بشكل واسع من الأحداث والمشكلات التي وقعت على هذا الشعب، فقد تعرض وخضع لتغيرات وأقدار عديدة، وأخيراً استطاع أن يطبع مبادئه الكبيرة على معظم الأمم المتحضرة لآسيا وأوروبا. في الحقبة السحيقة في القِدَم عبرَ النبيُّ إبراهيم () نهر الفرات، كمرتحل وحيد، لا يعرف أين يذهب، سوى أنه يطيع ويتبع أمراً إلهياً، الذي دعاه لأن يترك القوم الكافرين ويذهب ليصبح أباً لشعب جديد ونبياً لعقيدة إيمانية صافية بعيداً عن موطنه الأصلي. في حين ذهب حفيده يعقوب إلى مصر مع بضعة أشخاص، حيث أصبح المنحدرون من أصله أمة بحد ذاتها.
ونجد هذا الشعب في عصر من العصور واقعاً تحت العبودية، وضحية من ضحايا الاستبداد الذي لا يرحم، وتعرض لاقتلاع كامل. وفي عهد لاحق نراه وقع أسيراً تحت أيدي الوثنيين، الذين استخدموا كافة التحفيزات والضغوطات ضده. إلا أنه برفضه لجميع الإغراءات، فقد واصل هذا الشعب مقاومته باضطراد لعملية صهره وإخضاعه. وبدا على المدى الطويل أنه أصبح أدوات لتوزيع وانتشار شمل كافة أبناء آدم، والذي في ظروف أسعد من التي وقع فيها ومن قبل قد عدَّل وقوى من شخصيته بشكل كبير، كما قوى وثبت من أسسه وأعرافه وتقاليده، وساهم في ازدهار وإمكانات معظم الجزء المتقدم للجنس البشري في قطبي الكرة الأرضية.
كانت علاقته بالدين المسيحي علاقة تاريخية عكست وجهة نظر فريدة، إذ إنه بالرغم من اختلاف الرغبات والأهداف الدينية، إلا أنهم وضعوا أسس دين لم يُبدد طقوسهم الدنيويةَ فحسبُ، وإنما أيضاً دفعوها قدماً باتجاه القَبول العالمي الشامل والتي كانوا ميّالين لأن يعزوها لمصلحة قانونهم القديم. وبالرغم من أنهم كانوا يتصرفون كخميرة صغيرة قُدِّر لها لأن تمزج كافة الشعوب، إلا أنه غاب عنهم تقريباً النيّة والوعي على أنهما مبدأ مستتر للتخمر الذي تحمله استعارة التلميح. فهم كانوا يهدفون لهدف واحد، فينجزون هدفاً آخراً؛ إلا أنه بينما نقارن الوسائل بالأهداف، سواء في فحواها أو علاقاتها المادية والأخلاقية، فلا بد من أن نعترف أننا ندقق ونتفحص هنا واحدة من الأحداث البارزة جداً في السجلات التاريخية للجنس البشري.
بتجرد أفكاره من كافة اعتبارات قوة طبيعية خارقة تكون موحية بسرد أو حكاية ملهمة، فإنسان نزيه غير متميز سيشعر بنفسه مع ذلك أنه مجبر لمعرفة أن نهج الأحداث التي تشكل تاريخ فلسطين القديم لا يمكن أن توازي أيّ جزء آخر من العالم. وبتثبيت عينيه على منطقة القدس، مثلاً، فإنه يمكن أن يتذكر أنه قبل ألف وثمانمائة عام مضت، كان يسكن هناك في ذلك الجزء من فلسطين شعب فريد اختلف عن بقية شعوب العالم أو عن باقي الجنس البشري في أنه لم يكن وثنياً. ومن ثم ينظر حوله إلى كل بلد آخر على الأرض بالحقبة الزمنية نفسها، حيث يكتشف معتقدات خرافية من نوع بغيض ومخزٍ جداً، مما يُظلم جميع توقعات وإمكانيات الجنس البشري، ويُفسد طبيعته الأخلاقية في مصدرها الحقيقي. ويلاحظ أن بعض هذه الأمم تعتبر متقدمة جداً في العديد من الإنجازات الفكرية، ومع ذلك تكون غير قادرة على حمل عبء هائل من الأخطاء التي ارتكبتها، فتكون فوضوية ونزوية متقلبة إلى حدٍّ كبير في استخدام عقلها وتفكيرها وفي تطبيق مشاعرها وعواطفها. ويعلم، علاوة على ذلك، بأن هذه البقعة الصغيرة التي تدعى فلسطين بالرغم من أنها محتقرة من قِبَل ممالك مغرورة بنفسها، والتي لم يسمح حكماؤها للحظة أن يتصوروا من أن أي عقيدة ناشئة من أمة مجهولة يمكن أن يكون لها أدنى تأثير على معتقدهم، أو يمكن أن تؤثر ولو بدرجة ما على الشخصية العامة لأسسهم الاجتماعية.
إلا أنه بالملاحظة والمشاهدة، فبينما يتأمل ويستغرق في التفكير حول هذا المشهد المثير للاهتمام، فإن المرء في هذه البلاد لا يمكنه أن يقلل من شأن أنباء بلده مقارنة مع الرومان محبي الحروب وفلاسفة الإغريق، الذين مع ذلك واصلوا مكاسبهم وانتصاراتهم في كل صوب لغاية ما أصبحت صروحهم وخرافاتهم الوثنية مقدسة لديهم وعبدوها لألف عام، ودعمت بسلطة ممالك قوية جداً في العالم، ما لبثت أن سقطت الواحدة تلو الأخرى بظهور الدين المسيحي الجديد آنذاك وتعاليم المسيح التي نقلها تلامذته. فحجر صغير أصبح جبلاً وملأ الأرض وتفاخرت القدس بأبعادها حتى غطت نصف العالم لتلغي العبودية، ليس بقوة السلاح، وإنما بتقدم الرأي وقوة الحقيقة. فكافة أمم أوروبا، في العصور المتعاقبة، الإغريق، الرومان، البربر، نالوا شهرتهم باسم ذلك الجليلي المتواضع (المسيح) وتعاليمه الإلهية قاتلت جيوشاً كانت أقوى وأكبر من تلك الجيوش الفارسية المغرورة والمتغطرسة بطموحها، التي تغلغلت في آسيا للقضاء على ذلك الدين الجديد، بينما الشرق والغرب يجتمعون ليزينوا بثرواتهم المكان الذي وُلد فيه (المسيح) والجبل المقدس الذي سلم فيه حياته النفيسة.
على هذه الأسس، قدمت هناك مشكلة أو مسألة بالنسبة للمؤرخ أو السياسي على حدٍّ سواء لطبيعة مثيرة للدهشة جداً، والتي لا يمكن أن تحل بواسطة أي مرجع أو مصدر بالنسبة للمبادئ العادية في حين أن الجنس البشري يكون مولعاً بالعمل أو المعاناة. فالتأثيرات المنتجة على المجتمع تفوق أيضاً كافة الحسابات. فيكون عبثاً من أننا نحاول مقارنتها بتلك الثورات العادية جداً والتي غيرت لمرة واحدة وجه الأمم أو الدول، أو أنها منحت سلالة حاكمة جديدة لإمبراطوريات قديمة. فالانطباع الممنوح لمثل هذه الأحداث سرعان ما يزول ويتلاشى، وسرعان ما يتواصل توازنها على السطح المضطرب، ويظهر هدوؤها المعتاد؛ ولذلك يمكننا أن نؤكد من أن الوضع الحالي للعالم لا يختلف كثيراً عما كان قديماً، وإلا لما كان وُلد الإسكندر المقدوني أبداً، ولمات يوليوس قيصر في مهده. بيد أن الأحداث التي دخلت في تاريخ فلسطين تملك تأثيراً على المسائل الإنسانية والتي ليس لها حدود أخرى سوى وجود الجنس البشري، والتي ستكون في أي مكان يشعر بها بعمق في المجتمع، وستتقدم في المعرفة والصفاء. فالأمم الأعظم على وجه الأرض تتبع سعادتها وحضارتها حسب المبادئ الكريمة والقوانين الرفيعة للعقيدة التي تصدرها. فالعلم، والحرية، والأمن تفرض تقدمها بين كافة أوضاع البشر، بتعزيز قوة القانون وبمساعدة الأقل حظاً، ومنح القوة لسلطة القانون وبكسر عصا الاضطهاد.
ولا يعتبر الموضوع أقل أهمية للمسيحي التقي الورع، الذي يحصر أفكاره بحقائق هامة وخطيرة جداً تمثل الأحداث التاريخية المبكرة لدينه. فعواطفه متجهة نحو فلسطين بالارتباطات القوية جداً بها، وبكل جزء من أراضيها المختلفة، وبجبالها، وبحيراتها - وحتى بصحاريها - التي تعتبر مقدسة في نظره كمشهد لحدوث قوة خارقة ما. فخياله وتفكيره متجه دائماً نحو الأراضي المقدسة.