كتاب " مواطنون من جنسية قيد الدرس " ، تأليف محمد عيتاني ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2013 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب مواطنون من جنسية قيد الدرس
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

مواطنون من جنسية قيد الدرس
مواطنون من جنسية قيد الدرس
أخيراً صعدت إلى البوسطة، ارتياح كأنني بين أشجار التفاح في قريتنا، ولكن ظل في أعماقي ثقل فظيع، صخرة الموت الثقيلة تربض على روحي: لماذا حدث لي كل ذلك؟ أين أولادي الآن؟ أنا مت، ثم قمت من بين الأموات، ومع ذلك لم أرَ أحداً من أولادي.
ملأت الدموع عينيّ وعينيها معاً: هي لأنها قتلت قبل أن تفرح من ابنها حسين، وأنا لأنني لم أعثر على أي شيء من بقاياها لأدفنه في مقبرة القرية، وأكلله فجر كل سبت بحزمات الآس وجريد النخيل ودموعي الحمراء، طائرات العدو اجتازت الحدود ثم أخذت تقصف كل شيء، كل شيء، دون تمييز، وكانت إذاعتنا تُقاوم بضراوة. سقطت زوجتي وهي تحمل دلو الحليب لعشاء الأولاد. أصابتها رصاصة أولى في خصرها: أي! دخلك يا أمي، تتلوى على الأرض، تسبح في مزيج أحمر وأبيض، طائرات العدو، قنابل محرقة، انفجرت أم أولادي. لم يبقَ من فاطمة، أم علي، أي شيء. والآن في البوسطة أنا محتار. لا أعرف ماذا يجب أن أفعل. إلى أين أذهب. من أنا، وماذا سأكون؟ كنت أريد النزول من السيارة الكبيرة والهرب عير شوارع بيروت القاسية، ولكن رائحة المساء ونار القش في قريتنا وعيون أولادي كانت تجتذبني بقوة إلى الجنوب، أنا الآن هناك في أصيل مشمس، معلم المدرسة قال لي يوماً على البيادر: «مناظر قريتنا أجمل من بريق عيون الصبايا». تخنقني فجأة غصة مميتة. الأعداء. القمم الخضراء. كل شيء حي يدمرونه. يبيدونه إبادة. يحرقون حولنا حتى الهواء. ركاب البوسطة الكبيرة الزرقاء العتيقة، في كاراج الجنوب كانوا مختلفين: يسافرون أم لا يسافرون. يريدون المواسم، الوقت ـ آخر الربيع ـ لكن البعض يخاف الموت واليهود: الدبابات الطائرات الرشاشات تدمر كل شيء، تقتل كل مخلوق. لست أدري من الذي من ركاب البوسطة صاح في النهاية: اليهود ليسوا كل يوم في ضيعتنا. نريد أن نجني مواسمنا الزراعية يا جماعة.. قل لن يصيبنا.. إلا... بركة الآية الكريمة. الركاب في أماكنهم. وفي أذني وكل أعماقي طنين، طنين طويل. وبعد قليل الفتيان راحوا يغنون الدلعونا والعتابا والميجانا. خلدة. بدأ الرقص. نهضت صبية حسناء أخذت ترقص على تصفيق الشباب.
أنا شاب الآن في الخامسة والعشرين، أرقص بقوة عند قفلة الدبكة، ساعداي يشبكان ساعدي فاطمة التي يحمر وجهها وهي تبتعد عني خجلى بعد الرقصة. ثم يوماً قلت لها: لماذا كل هذه المداورة يا فاطمة، فأنتِ لي. ولن تكوني لغيري أبداً.
البهجة تتجدد حولنا والرقص. ولكن سواد. موت. أوجاع ضوء ساطع يصارع هذه الأشياء: الخطبة، حداء الشباب. العرس أم عقيل الحسناء داية القرية جاءت مسرعة «مبروك! إجاك صبي مثل القمر!» ثم أغرق من جديد في عالم آخر، لا شمس، لا رحمة، لا إلفة أشياء، ولا حنان أطفال: زمهرير وصقيع وسواد رهيب ورائحة موتى. وأنا أرفس الباب الحديدي مرة، ومرة، ومرة. أين أولادي؟ أين أنا الآن؟ ماذا حدث لأهل قريتنا؟ هل أنا في زنزانة يهودية؟ الآن في جو البوسطة المرح، وضوء البحر، صار بإمكاني أن أتذكر. لكن هذه الآلام في جميع أنحاء جسمي. الطنين، الطنين، الطنين في أذنيّ في أعماق كياني. أنا في أعماق قبر أسود، والبلاطة فوق صدري، وفجأة أطير فوق كل شيء مثل غربان القرية فوق قباب الجوز.
منذ دهر كنت في خراج قريتنا «نبعا»، على رابية عالية. الأهالي يتصايحون: غارة، أدغال ملول. حقول. اليهود سيفعلون شيئاً هذه الليلة. آخر مرة ركعونا، مع نائب المنطقة، في ساحة القرية، وقتلوا ثلاثة أو أربعة منا، وساقوا معهم بعض الأهالي وجزمات الأعداء تقطر من دمنا في ساحة قريتنا. هذه المرة رأيت اليهود عن قرب، الطائرات تنقض على بيوت القرية، الدبابات المنجمة تتقدم بخطى فولاذية رهيبة. «نعمل لأجلكم» «لبنان يرحب بكم». أظن أنني سقطت على الأرض. طنين في أذنيّ، وحجر ثقيل في بئر روحي. غيمة صفراء تغطي كل شيء حولي آخر شيء سمعته: أين أقرب طبيب هنا؟ لا أدري من الذي أجاب: أقرب طبيب هنا موجود في بلاد الواق الواق. العوض بسلامتكم.
* * *
... ثم أفقت. سواد حالك كلياً. جسمي يرتعد. برد جليدي. صدري. زمهرير. صقيع مميت وظلام. أصوات نسائية في الخارج بعيدة بعض الشيء، مددت يدي أمامي فلم أرَ إلا نبضات قلبي المرتعب. قرويتي عينت لي المسافات: لست في مكان واسع، بل هو في حجم خيمة ناطور عندنا. ظلام. ظلام. حيرة، ورعب.
تمالكت نفسي أخيراً. وبعد طول تلمس وتحسس اصطدمت أصابعي بزر فأضاء المكان مصباح كهربائي. وشعشعت جدران سجني الجليدية. أنا في براد واسع بعض الشيء ثوبي كفن أبيض. ورائي جثتان مغمضتا العيون. ضاع وعيي بعض الشيء. يوم الحساب. لكن معي سيد الشهداء الإمام الحسين.